بعد أيام قليلة تنعقد في بريتوريا قمة حركة عدم الانحياز في ظرف يذكر بالأيام التي نشأت فيها هذه الحركة. ويتمثل هذا الظرف تحديداً في شخصية ضيف المؤتمر الرئيس الافريقي نلسون مانديلا الذي يتمتع بصفات وخصال شخصية وقيادية تشبه تلك التي تمتع بها مؤسسو الحركة وقادتها، خصوصاً جواهر لال نهرو، الزعيم الآسيوي الذي اضطلع بدور كبير في تحديد أهداف الحركة والأفكار الرئيسية التي تمثلتها. فمانديلا مثل نهرو وناصر وتيتو يملك ثقة شعبه ويتمتع بمكانة دولية مرموقة واحترام قوى دولية متصارعة. غير أنه منذ أن أرسيت مبادئ عدم الانحياز في مؤتمر باندونغ عام 1955، ومنذ عقدت حركة عدم الانحياز قمتها الأولى، تغيرت أشياء كثيرة تطرح في الاذهان أحياناً أسئلة حول مسوغ استمرار هذه الحركة. ففي الخمسينات والستينات كانت الحركة والأهداف موضع اهتمام عالمي واسع. وكانت تعتبر من القوى العالمية التي تملك تأثيراً معنوياً في المجتمع الدولي، إلا أن حركة عقدم الانحياز أخذت تفقد تأثيرها ومصداقيتها بعد أن أصابها الترهل بعدما اصيبت بأمراض التضخم في عدد اعضائها، والكثرة في عدد المنحازين منهم، والخلافات التي أقعدتها عن الاضطلاع بمسؤولياتها الدولية، وامتناع اعضائها عن الالتزام بمقرراتها. كل ذلك جعل البعض يصفها بأنها حركة عدم الانجاز بدلاً من عدم الانحياز! لقد نشأت الحركة في مناخ الاستقطاب الدولي الثنائي حيث كان كل من المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي يمارس ضغطاً ملحوظاً على دول العالم، خصوصاً تلك التي تحررت حديثاً، من أجل الانضمام إلى صف واحد منهما. وأخذت الدول الصغيرة، بل وحتى المتوسطة، تشعر أنها، كما يلاحظ جوزف فرانكل في كتابه "العلاقات الدولية في عالم متغير" لا امان ولا شرعية لها من دون الانضمام إلى واحد من المعسكرين. وكان الاصطفاف في واحد من هذين المعسكرين يعني التبعية للولايات المتحدة أو للاتحاد السوفياتي، وهو أمر لم يقبله زعماء الدول التي ارست مبادئ عدم الانحياز، ولم تقبله شعوب الدول التي انتمت إلى الحركة. من هنا قامت الدعوة إلى تكوين حركة تسعى إلى تفكيك التكتلات الدولية. وحتى لا يقع هؤلاء في المحظور الذي أنبروا لمحاربته، فقد شددوا على أنهم لم يمثلوا كتلة جديدة بديلة عن الكتلتين. هذا الوضع لم يعد قائماً الآن. فالمعسكر الاشتراكي تفكك، بل ان الاتحاد السوفياتي نفسه تفكك، وتحول النظام الدولي إلى نظام أحادي بحيث لم يعد من معنى لعدم الانحياز، كما كان في السابق، لأن هذا المفهوم كان يفترض طرفين أو أكثر يتنازعون بينما لا يوجد راهناً من ينازع الولاياتالمتحدة على زعامتها الدولية. وكان تحرير الشعوب من سيطرة الدول الكبرى من أبرز أهداف حركة عدم الانحياز، ولقد حقق العديد من الشعوب والأمم هذا الهدف في النصف الأخير من القرن العشرين، إلا أن البعض منها طفق يعامل بعض الأقليات الاثنية أو الدينية في بلاده مثلما عامله المستعمرون. فمن الدول الخمس التي دعت إلى مؤتمر باندونغ الذي أرسى مبادئ عدم الانحياز، نجد ان الهند تواجه مشكلة مزمنة في كشمير ذات طابع ديني إسلامي واقليمي، كما أن أندونيسيا تواجه مشكلة مماثلة في تيمور الشرقية التي تطالب بالاستقلال، والتي تبلغ نسبة المسيحيين من سكانها حوالى 30 في المئة. أما باكستان فقد اتهم الباكستانيون الشرقيون حكومة باكستان باضطهادهم، ومن ثم عمدوا إلى اعلان دولة بنغلايدش بعد عشر سنوات من تأسيس حركة عدم الانحياز. وتواجه حكومة سيلان اتهامات مماثلة يوجهها إليها التاميل الذين يطالبون بحق تقرير المصير. ومن بين الدول التي قادت الحركة، تواجه حكومات الصرب ومونتينيغرو وكرواتيا الانتقادات الدولية بسبب أعمال الإبادة ضد شعبي البوسنة وكوسوفو. إن مشكلة القوميات والاقليات الاثنية باتت اليوم تواجه الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز مثلما كانت مشكلة التحرر من الاستعمار تواجه هذه الدول. وربما كان من أهم المتغيرات التي طرأت على العالم والتي تتصل اتصالات وثيقة بما تمثله حركة عدم الانحياز، هو ما آلت إليه أوضاع سباق التسلح. ذلك ان اعلان باندونغ اعتبر ان "نزع السلاح" النووي وتحريم انتاجه، ومنع التجارب النووية ضروري من أجل انقاذ البشرية والحضارة من الدمار الشامل". بالمقابل نجد الهندوالباكستان تجددان سباق التسلح النووي، وتهددان أمن القارة والاستقرار الدولي. هذه المتغيرات تقدم أمثلة ما يثير في الاذهان أسئلة كثيرة حول مصداقية حركة عدم الانحياز وحول جدوى استمرارها ومستقبلها. فكيف يمكن لهذه الحركة أن توفق بين أوضاع بعض الدول التي اضطلعت بدور مهم في تأسيسها وتسييرها وبين المبادئ التي قامت عليها؟ وهل يمكن لهذه الحركة أن تستمر كأداة للمناداة بأهداف ومثل إنسانية، بينما يسلك العديد من الدول الأعضاء في الحركة الطرق المغايرة لهذه المبادئ؟ المتغيرات الدولية التي أشرنا إليها لا تلغي الحاجة إلى حركة عدم الانحياز، بل أنها بالعكس تزيد الحاجة إليها. فلئن كانت الدول الصغيرة والمتوسطة تشكو في الماضي من تجاذب وضغوط الجبارين الدوليين، فإن ذلك الوضع كان يسمح لها بالإفادة من التناقض بينهما من أجل الدفاع عن مصالحها الوطنية. أما الآن فقد أصبحت هذه الدول أقل قدرة على حماية مصالحها في ظل هيمنة قوة عظمى واحدة على النظام الدولي. استطراداً باتت هذه القوى في حاجة ماسة إلى تجمع دولي واسع يحد من طغيان القوة العظمى، أي الولاياتالمتحدة تحديداً، على المجتمع الدولي، ومن ضغطها على الدول المتوسطة والصغيرة. وبالنسبة إلى العرب أنفسهم، فقد لعبوا دوراً مهماً في تأسيس حركة عدم الانحياز، فبين التسع والعشرين دولة التي شاركت في مؤتمر باندونغ، كانت هناك ثماني دول عربية. وكانت القضايا العربية، مثل قضية تحرير فلسطين واليمن ودول المغرب العربي، من القضايا التي استأثرت باهتمام مؤتمر باندونغ وأكثر قمم الحركة. واضطلعت مصر باسم المجموعة العربية، جنباً إلى جنب مع الهند ويوغوسلافيا، بدور مهعم في توجيه حركة عدم الانحياز. ولقد ساعدت الحركة بعض الدول العربية على تحقيق أهدافها في التحرر من الاستعمار، إلا أن العرب ما زالوا يحتاجون إلى ما تمثله الحركة من إطار دولي للتعاون بين الدول الصغيرة والمتوسطة من أجل تخليص أراضيهم من الاحتلال الإسرائيلي، ومن أجل الدفاع عن مصالحهم الحيوية وحقوقهم الإنسانية. وهكذا، فإنه ما زالت هناك، من زاوية دولية عامة وعربية خاصة، حاجة إلى استمرار حركة عدم الانحياز شرط ان تتمكن الحركة من التطور، خصوصاً في المجالات التالية: - أولاً، تبني الدعوة إلى الدمقرطة والتعددية الحزبية والسياسية. فالحركة كانت تشدد على حقوق الإنسان، وعلى حق تقرير المصير تحديداً، بينما كانت تتجاهل المسألة الديموقراطية. وكان هذا التجاهل من أساب إضعاف مصداقية المنظمة، خصوصاً بعد أن وليت النخب الوطنية شؤون الحكم في بلادها وأقامت أنظمة مطلقة لم تحقق للشعوب أملها في التقدم والحرية، ان تبني المبادئ الديموقراطية قد لا يكون سهلاً لأن بعض الدول الأعضاء يعارض هذه المبادئ، إلا أنه يوجد الآن عدد كافٍ من الدول التي تتبنى المبادئ الديموقراطية في الحركة، وبامكان هذه الدول أن تحملها على تبني هذه المبادئ. - ثانياً، تجديد الحملة ضد السلاح النووي. صحيح ان التفجيرات النووية الهنديةوالباكستانية قد تؤثر على طابع هذه الحملة، إلا أنها قد تؤثر بصورة ايجابية إذا ما أبدت حكومتا الهندوالباكستان استعدادهما للتخلي عن الخيار النووي، كما فعلت الدولة المضيفة، إذا وافقت الدول التي تملك السلاح النووي على الالتزام ببرنامج مكثف لنزع سلاحها. - ثالثاً، تشجيع قيام تكتلات اقليمية في المجتمع الدولي. كأساس للعولمة المستندة إلى التعاون الحثيث بين هذه التكتلات. ومثل هذه الدعوة ليست بعيدة عن مبادئ عدم الانحياز التي دعت أساساً إلى تنشيط التبادل التجاري بين التكتلات الاقليمية في العالم، كما أنها ترددت في مناسبات أخرى. ففي عام 1987، مثلاً، دعا جوليوس نايري، رئيس جمهورية تنزانيا السابق الذي كلفته حركة عدم الانحياز عام 1987 بترؤس لجنة الجنوب من أجل وضع برنامج تنمية شامل لدول الحركة، دعا زعماء افريقيا إلى السير السريع على طريق التعاون والتكتل الاقليمي لئلا تتعرض القارة في القرن الواحد والعشرين إلى كارثة كبرى. إلا أن الدعوات الموسمية التي تصدر عن بعض قادة الحركة لا تكفي، إذ لا بد من اعطاء هذه الفكرة حيزاً أكبر في عمل الحركة. ومن اعتبارها أساساً لنظرتها إلى العلاقات الدولية، ولتأكيد فكرة المساواة بين الأمم وحريتها في تقرير سياستها ومصيرها. - رابعاً، تجديد الحملة ضد العنصرية. ففي السابق تمحور العمل، بما في ذلك عمل حركة عدم الانحياز نفسها، ضد العنصرية في العمل على اسقاط نظم العنصرية البيضاء في افريقيا السوداء. في ضوء ذلك اهملت، بصورة غير مقصودة، النظم والبؤر والنزعات العنصرية في أماكن أخرى في العالم، مثل إسرائيل حيث يهدد التعصب الديني والعنصري العرب، والعالم الأطلسي حيث تتهدد النزعات العنصرية الاقليات العرقية والدينية، كما تهدد أيضاً الأنظمة الديموقراطية الليبرالية في أوروبا والولاياتالمتحدة واستراليا. فضلاً عن ذلك، فإن الاهتمام انصب على العنصرية البيضاء وحدها، بينما اهملت العنصريات الصفراء والسمراء والسوداء. وفي امكان حركة عدم الانحياز الاضطلاع بدور مهم في معالجة هذا الواقع وتوجيه الحملة ضد العنصرية توجيهاً يراعي المعطيات الجديدة. لقد تمكن نلسون مانديلا، مضيف قمة عدم الانحياز، من الانتصار على العنصرية البيضاء في بلده، ولعله، بفضل خبرته ورغم تقدمه في السن، يرسي أساساً سليماً لمكافحة العنصرية على النطاق الدولي. * كاتب وباحث لبناني