تتزايد الأحاديث في اسرائيل هذه الايام عن ضرورة اجراء انتخابات عامة مبكرة قبل موعدها المقرر عام 2000 بعد تصويت الكنيست على القراءة الاولى لحل نفسه وتزايد العداء لبنيامين نتانياهو رئيس الوزراء داخل معسكر الليكود والاحزاب المتطرفة المتحالفة معه وفي أوساط المعارضة الرسمية في حزب العمل وغيره من الاحزاب الصغيرة. هذه الانتخابات التي يتوقع المحللون ان تجري في مطلع العام المقبل بعد استبعاد اجراءها في تشرين الثاني نوفمبر بسبب تزامنها مع الانتخابات المحلية البلدية تعني أمراً واحداً بالنسبة للعرب ولمسيرة السلام في الشرق الاوسط وهو الجمود التام في اطار سياسة المماطلة وكسب الوقت التي انتهجتها الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، أي منذ حكومة اسحق شامير الليكود الى حكومة نتانياهو الليكودية المتطرفة مروراً بحكومتي اسحق رابين وشيمون بيريز العماليتين. والاسماء المطروحة للمنافسة على قيادة احزابها في الانتخابات وبالتالي الترشيح لرئاسة الوزارة حسب القانون الذي استفاد منه لأول مرة نتانياهو تتراوح بين أقصى اليمين الى أقصى اليسار. فبالاضافة الى نتانياهو ومنافسه الرئيسي زعيم حزب العمل ايهود باراك هناك روني ميلو الذي يتمتع بشعبية واسعة، وأرييل شارون السفاح المعروف، واسحق موردخاي وزير الدفاع الحالي وديفيد ليفي وزير الخارجية السابق الذي استقال بعد خلافه مع نتانياهو حول السياسة الخارجية فيما يتجاذب الجميع امنون شاحاك رئيس الاركان السابق بعد تقاعده. ومن غرائب السياسة الاسرائيلية ان الضجة السائدة حول تقديم موعد الانتخابات العامة تزداد حدة رغم عدم رغبة اللاعبين الرئيسيين في اجرائها الآن وهما نتانياهو وباراك. فالاول ما زال يكابر رغم تصويت الكنيست الاخير ويصرّح بانه باق حتى عام 2000 خوفاً من سحب البساط من تحت قدميه على يد أقرب اعوانه، لان الحسابات تشير الى ان شعبيته في أدنى مستوياتها وانه سيخسر الانتخابات امام أي مرشح من كتلته أو من حزب العمل. اما باراك فانه يعاني من شعبية محدودة بسبب عدم تمتعه بكاريزما الزعامة اضافة الى حملات اعلامية يتعرّض لها بشكل شبه يومي. الا ان الضربة الموجعة التي تلقاها اخيراً جاءت من أقرب مساعديه وهو أوري أور الذي أثار نقمة اليهود الشرقيين، والمغاربة بشكل خاص عندما هاجمهم وانتقدهم مقدماً هدية ثمينة لنتانياهو الذي اتهم حزب العمل بالعنصرية!! وبين هذا المعسكر أو زاك هناك أحاديث متجددة عن اتجاه لدى نتانياهو وباراك لتشكيل حكومة ائتلاف وطني يضم الحزبين الرئيسيين ويخفف من نفوذ الاحزاب الصغيرة التي لجأت خلال العقدين الماضيين للابتزاز وفرض نفوذها وشروطها على الحزبين. وفي كل الاحوال فان الصوت العربي الذي يمثل حوالي 20 في المئة من الاصوات يمكن ان يلعب هذه المرة دوراً حاسماً في ترجيح كفة هذا التيار أو ذاك شرط ان يخوض اللعبة بذكاء وتخطيط يعد له منذ الآن بحيث يتم توحيد مواقف عرب الداخل 1948 واتفاقهم على مرشحين ولوائح موحدة اضافة الى وضع المطالب العربية على الطاولة للتفاوض عليها والحصول على تعهدات بدعمها. ويهمنا، كعرب، ان نطلع على مجريات الامور ونتابع التفاصيل والاتجاهات والمعلومات التي تنشر وتذاع عن الوضع الداخلي في اسرائيل حتى ندرك ما يدور في العقل الاسرائيلي بغض النظر عن المواقف والبيانات الرسمية حتى نستطيع مواجهة ما يخطط لنا أو على الاقل ما يخطط لوأد القضية الفلسطينية ونسف مسيرة السلام وتهويد القدس والسيطرة على مصادر الثروة والمياه واقامة المزيد من المستعمرات الاستسطانية كخطوة اولى نحو المزيد من التوسع واحياء حلم اسرائيل الكبرى. وعندما يتابع المرء التطورات من جميع جوانبها تكتمل الصورة لديه ويدرك حقيقة أكذوبة الصراع بين الصقور والحمائم التي تتردد يوماً بعد يوم وتشبعنا تحليلات وتوقعات حول الاعتدال والتطرف والآمال المعلقة على هذا الشخص أو ذاك الاتجاه عندما يتسلم الحكم. صحيح ان هناك خلافات، وخلافات عميقة داخل المجتمع الاسرائىلي، وهناك صراعات عنيفة، حزبية وشخصية، وهناك ألعاب قذرة تمارس في دهاليز وأروقة العمل السياسي الاسرائىلي، وهناك حالات فساد وطموحات ومطامع وفضائح، وهناك مواقف وسياسات اقتصادية واجتماعية متباينة بين الاحزاب والقيادات والشخصيات في الحكم والمعارضة على حد سواء الا انها تذوب كلها تقريباً عندما يتعلق الامر بالعرب والحل السلمي ومصير القدس والاستيطان وحقوق الشعب الفلسطيني والانسحاب من الاراضي العربية المحتلة في الضفة الغربية والجولان وجنوب لبنان. فهنا يقوم الخلاف على الشكل لا على الجوهر، وفي التفاصيل لا في الاساس، وفي الاسلوب لا في النتائج النهائية... وفي التكتيك لا في الاستراتيجية. فالصقور من ليكود والاحزاب اليمينية المتطرفة المتحالفة معه يريدون زج العرب ومطالبهم بوحشية بينما العمل ومن يلف لفه يدعون للذبح بحنان ولطف!! والليكوديون يجاهرون بتطرفهم ومواقفهم المتعنتة والمتطرفة ورفضهم بصراحة ووضوح ويضربون بيد حديدية! أما جماعة العمل والمتحالفين معهم فانهم يلجأون للكلام المعسول ويعطون من طرف اللسان حلاوة ويضربون مثلهم مثل الصقور بلا رحمة ولكن بقفازات حريرية يخفون وراءها اليد الحديدية! ولكن هذا لا يعني فقدان الامل نهائياً بالسلام، أو بعدم توقع حدوث تقدم على جميع المسارات في حال فوز حزب العمل في الانتخابات المقبلة" بل على العكس فان السلام يبقى هدفاً استراتيجياً ولو معلناً فقط، للعرب وهو السلام الفعال الذي يساعد على تغيير اتجاهات الرأي العام في العالم، وفي اسرائيل ويدفع الى الاعتدال، أو على الاقل يحرج من يدعي انه يمثل الاعتدال والرغبة في السلام كما يزعم باراك وحزبه وانصار حركة السلام الآن والاحزاب اليسارية. فالواجب يقتضي تطبيق معاني مثل "إلحق الكذاب لوراء الباب" رغم القناعة بحقيقة أكذوبة صراع الصقور والحمائم. واكثر ما يعني الصقور وجماعات التطرف الصهيوني الآن اقدام العرب على التخلي عن استراتيجية السلام أو حدوث اعمال ارهابية أو احداث عنف تعطي المخططات الصهيونية ذريعة للانطلاق في كل الاتجاهات واسكات اي صوت يبشر بالسلام بين العرب واسرائيل. ومن يتابع مواقف وتصريحات مختلف الزعماء الاسرائىليين من التيارات المتنافسة يكتشف الاتفاق الضمني على عدد من المسلمات التي تنسف اسس السلام وقرارات الشرعية الدولية رغم الاختلاف على التفاصيل والنسب وأسلوب التفاوض وحدود المناورة وابعاد الهدف النهائي. وهنا بعض العينات من هذه المسلّمات الاسرائىلية الصهيونية العامة: - ان مبادرة السلام الاميركية "انتهت فترة صلاحيتها" ولم تعد قائمة، ولهذا يجري تفصيل السلام على القياس الاسرائىلي وحسب المصالح الصهيونية بعد نسف مرجعية مدريد ونقض مبدأ الارض مقابل السلام وتفريغ قرارات الشرعية الدولية من معانيها ومبانيها. - ليس من مصلحة اسرائيل المجاهرة برفض مبادرة السلام الاميركية أو الانسحاب من عملية السلام ولهذا لا بد من ايجاد بدائل بينها مواصلة رمي الكرة في ملعب العرب ووضع شروط وعوائق واتخاذ مواقف تستفز العرب لحملهم على الانسحاب لتحميلهم مسؤولية فشل المبادرة ونفض يدي اسرائيل منها. - تقسيم المسارات العربية وتحطيمها مساراً مساراً لتمييع العملية وإثارة الفتن وجرّ بعض العرب الى فخ التطبيع لشق الصف العربي وجني ثمار "السلام على الطريقة الاسرائىلية"!! - تشديد الضغط على الادارة الاميركية لتتحول اسرائيل من "مضغوط عليه" الى ضاغط، وهذا ما جرى فعلاً حيث سيطر اللوبي الصهيوني على مقاليد الادارات العامة وعلى الكونغرس بالذات وطوق البيت الابيض بفضائح شلّت قدرته على الحركة... فكيف بالضغط على اسرائيل! - تسريع خطوات تهويد القدس وضمّ احياء ومستعمرات اسرائيلية اليها ومحاصرة السكان العرب وهم أهل القرى الاصليين لنسف أية محاولة للتفاوض على مستقبل المدينة المقدسة، اذا حل أوان المفاوضات النهائية. و هذا ينطبق ايضاً على الاسراع بمخططات الاستيطان الاستعماري لزرع المستوطنات في كل مكان وتحويلها الى "مسمار جحا" الذي تفرض من خلاله سيطرتها على الاراضي العربية لمتطلبات المزاعم الامنية. وقد قرأنا اخيراً عن خطة جهنمية لمضاعفة عدد المستعمرات في مرتفعات الجولان السورية المحتلة ضمن أسلوب فرض سياسة الامر الواقع، وايجاد مبرر للشروط التي يمكن فرضها في حال استؤنفت المحادثات على المسار السوري - الاسرائيلي. - إحكام السيطرة على مصادر المياه والثروات المعدنية والزراعية وتنفيذ الخطة التي تدعو لاعطاء الفلسطينيين "قنابلهم الموقوتة"، اي المدن المكتظة بالسكان ورفض التخلي عن معظم اراضي الضفة الغربية لاستغلالها زراعياً وإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية. - السيطرة على المياه تعني التحكّم برقاب الفلسطينيين ومصيرهم، وهذا ما يطبق ايضاً في مختلف مجالات الحياة العامة للفلسطينيين من فرص عمل ومشاريع بحيث تشدد اسرائيل إحكام الطوق وشد حبل الحصار حسب اتجاهات الرغبة الاسرائىلية ليبقى سيفاً مسلطاً على اعناق الشعب الفلسطيني. - تنفيذ هذا المخطط على اساس المناورة والمماطلة وكسب الوقت وافتعال ازمات بين الآونة والاخرى لمنع اي تقدم وهو ما بدأه شامير الذي كان ينوي إطالة عمر المفاوضات لاكثر من 10 سنوات وسار عليه رؤساء الحكومات المتعاقبة بعده وآخرهم نتانياهو في لعبة تبادلية محكمة صارت مفضوحة ومبتذلة. وبعد هذا من يصدّق أكذوبة الصقور والحمائم؟ ومن ينتظر الخير على أيدي اعداء الخير... واصحاب اكبر عملية نصب في تاريخ العالم؟ ومن سيمضي بعد في لعبة انتظار السيء والاسوأ والأشد سوءاً؟ * كاتب وصحافي عربي