منذ 1963 استولى حزب البعث العربي الاشتراكي، ممثلاً بقيادته القومية وبزعاماته التاريخية وفي مقدمها ميشال عفلق الصورة وصلاح الدين البيطار، على السلطة في العراق وسورية. وكان الحكم خلال بدايات تلك الفترة تحت سلطة العديد من التحالفات التي يقودها حزب البعث ويشكل فيها نقطة التوازن بين عناصر قومية وناصرية وتقدمية مختلفة. وكان هذا التحالف في البلدين قد حاول ان يعيد الى الحياة المشاريع الوحدوية العربية، اولاً لأن ايديولوجيته الحزبية كانت تملي عليه ذلك، وثانياً لأنه كان رى في مصر الناصرية، في ذلك الحين، ولو لفظياً، غطاء يقيه الاخطار العديدة المحيقة به في الداخل وفي الخارج. اذ نعلم ان حزب البعث في سورية كان قد حقق ثورته ضد ما كان يسمى يومها بالفئات الانفصالية ويوصف ب"الرجعية"، اي تلك الفئات التي كانت قد قصمت عرى الوحدة التي قامت بين مصر وسورية في 1958. غير ان حذر عبدالناصر، وصعوبة المفاوضات والظروف السياسية المحلية والعالمية في ذلك الحين، حالت دون تجدد العهد الوحدوي الذي كان بعثيو القيادة القومية يراهنون عليه من اجل تعزيز موقعهم في الحكم. وهكذا، راحت الاخطار تتجمع وراحت الصراعات تتزايد، ليس فقط بين الحكام الجدد وخصومهم التقليديين، بل ايضاً بين اجنحة وفئات الاطراف الحاكمة نفسها. وهكذا عرفت سورية بين الانقلاب الانفصالي الذي جرى في 28 أيلول سبتمبر 1961، ويوم 23 شباط فبراير 1966 فترة تميزت، حسب التقارير السياسية للاحزاب في تلك المرحلة ب"عدم الاستقرار السياسي" حيث تعاقبت الحكومات وتلاحقت الانقلابات والمحاولات الانقلابية، وتصدرت عمليات التصفية الحادة بين الحلفاء انفسهم و"بدأت هذه الفترة - على اي حال - باستيلاء ممثلي اشد فئات البورجوازية والاقطاعية رجعية، على السلطة السياسية" حسب ما يقول تقرير شهير للحزب الشيوعي السوري. مهما يكن، فإن تلك الاحوال كان لا بد لها ان تنتهي. ولكن كان من المستحيل على اية فئة اخرى من خارج حزب البعث - في سورية - ان تنجح في تحرك سياسي فعال، ومن هنا كان انقلاب 23 شباط فبراير انقلاباً بعثياً على البعث، حيث قام عدد من كبار الضباط والحزبيين ممن سيطروا على "القيادة القطرية" للحزب بانقلاب مفاجئ ابعد عن السلطة ثلاثي أمين الحافظ، ميشال عفلق، صلاح الدين البيطار ممن كانوا ينتمون الى القيادة القومية، وكان في قيادة الانقلاب الجديد صلاح جديد ونورالدين الاتاسي اضافة الى وزير الدفاع في ذلك الحين حافظ الاسد، الذي سيقوم بعد ذلك بسنوات قليلة ب"حركة تصحيحية" تبعد عن الحكم الاتاسي وجديد والمجموعة "اليسارية" التي كانت ملتفة حولهما. والحقيقة ان اصحاب انقلاب 1966، الذين ارادوا لأنفسهم ان يكونوا الاكثر تقدمية ويسارية بين المجموعات كافة التي حكمت سورية حتى ذلك الحين، لم يقيض لهم ان يخوضوا ما يكفي من التجارب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي كانت حركتهم، في الاساس، تتوخى تحقيقها من منطلقات كانت تصف نفسها بأنها "ماركسية قومية على الطريقة العربية"، لأنه ما ان بدا ان السلطة قد استقرت في ايديهم، وهو امر استغرق شهوراً عديدة، حتى فاجأتهم حرب حزيران يونيو 1967، التي دمرت قوة الجيشين السوري والمصري معاً وسدت جميع الآفاق التي كان يمكن ان ينبني عليها، في ذلك الحين، مستقبل اقتصادي واجتماعي مكين. وبعد وقت قصير جاءت سيطرة "القيادة القومية" على الحكم، نهائياً، في العراق الذي احتضن القيادات الهاربة من سورية، ما وضع الحكم السوري امام اخطار دائمة وداهمة. ومن هنا فبدلاً من ان ينصرف الحكم الجديد الى تحقيق مشاريعه وطموحاته المعلنة، وجد نفسه في دوامة مدوخة بين ضرورات اعادة بناء الجيش وترسيخ مواقع الحزب، وحماية ما تم تحقيقه، وكان ضئيلاً على اي حال، وذلك كله في مواجهة حذر البلدان العربية الاخرى، ولا مبالاة مصر الناصرية، وعداء القيادة القومية المتخذة من العراق مركزاً لتحركها. وهكذا راحت الاخطار تتراكم كما راحت الاخطاء تتراكم، لينتهي الامر بقيام "الحركة التصحيحية" التي انهت حكماً كان يبدو عليه انه شديد الطموح، وغابت عن ساحة السلطة في سورية اسماء كان لها خلال سنوات قليلة دوي لابأس به، من صلاح جديد الى نورالدين الاتاسي الى يوسف زعين الى ابراهيم ماخوس وغيرهم.