على رغم اني علّّقت سابقاً على الملاحقة القضائية التي يقوم بها المدعي المستقل كينيث ستار للرئيس كلينتون، فان عدم ارتياحي من هذا المسعى لتجريم حياتنا السياسية بلغ حداً يدفعني الى ابداء الرأي مرة اخرى، حتى قبل ان اعرف ما قد يقوله الرئىس في استجوابه غير المسبوق في 17 اب اغسطس امام هيئة المحلفين العليا. ينبغي ان ندرك ان ملاحقة كلينتون قضائياً من قبل ستار هي بشكل اساسي عملية سياسية وليست قانونية. ويلقى ستار، الذي ينتمي الى الجناح اليميني في السياسة الاميركية، الدعم من جماعات مصالح عازمة على الانتقام بأي طريقة من الرئيس. ولن يتوانى عن استخدام اي ثغرة قانونية اذا كانت تخدم هذا الهدف. وتعتمد الدعوى القضائية الان - التي تحولت خلال العام الماضي الى تحقيق في حياة الرئىس الجنسية - على شهادة ادلى بها كلينتون تحت القسم في قضية بولا جونز ونفى فيها انه اقام علاقة جنسية مع مونيكا لوينسكي. لم يكن لمونيكا لوينسكي اي علاقة اطلاقاً بقضية جونز. وكان يُفترض الاّ يدلي الرئيس بشهادته في تلك القضية، فقد اُسقطت بعد ذلك بوقت قصير اذ قررت قاضية فيديرالية حفظ الدعوى. وكان ينبغي ان تُرجأ قبل ذلك، كما طلب الرئىس، الى ان تنتهي فترة رئاسته. لكن محكمة عليا تمتاز بادائها المتدني بشكل عام توصلت الى ان التحقيق في حياة الرئيس الجنسية لن يؤثر على سير ممارسته لمهامه الرئاسية. وتبيّن بجلاء ان هذا القرار كان تقديراً خاطئاً من قبل المحكمة. هكذا، فان كذب كلينتون المزعوم تحت القسم يتعلق بالاجابة على اسئلة كان ينبغي الاّ توجّه اليه اطلاقاً في دعوى قضائية تافهة كان ينبغي الاّ تُقام ابداً. جادل البعض بان هذه الحقائق لا تقلل من خطورة التهمة القانونية ضد الرئيس وانه يجب ان يُعامل مثل الاخرين. لكن هذه بالذات هي النقطة الاساسية. فالرئيس لا يُعامل مثل غيره من الناس، ولا يُعامل ايضاً مثل اي رئيس سابق. لا يُستجوب احد منا بأدق التفاصيل حول حياته الجنسية الخاصة. ولم يخضع اي رئيس سابق الى مثل هذا التحقيق رغم تقارير واسعة الانتشار نوعاً ما عن ارتباط عدد منهم بعلاقات خارج الرابطة الزوجية، من ضمنهم جيفرسون وهاردينغ و إف. دي. روزفلت وايزنهاور وكنيدي. ولو تُكشف الحقائق سيتبيّن ان سجل مجلس الشيوخ الاميركي، الذي تعرفت عليه عن كثب خلال 18 سنة من الخدمة، ليس منزّهاً عن العيوب عندما يتعلق الامر بالعلاقات خارج اطار الرابطة الزوجية. واكتشفت ان الامر نفسه ينطبق على زملائي السابقين في التدريس الجامعي ورجال الدين، وحتى - يا للهول - اشهر الصحافيين والمعلقين في شبكات التلفزيون الذين لا يكفون عن سرد خطايا الرئىس الجنسية، صباحاً ونهاراً وليلاً. لكن الرئيس وحده يخضع الى ملاحقة مدعٍ فيديرالي لا يكف عن مطاردته شهراً بعد اخر، مع موازنة فيديرالية مفتوحة استهلكت حتى الان اكثر 40 مليون دولار من الضرائب التي ندفعها. الرئىس وحده يُجرجر للمثول امام هيئة محلفين عليا كي يدلي بشهادته حول البقعة القديمة التي يحملها فستان مونيكا. الرئىس وحده يُحرم من الامتياز التقليدي للعلاقة بين المحامي وموكله الذي يُفترض ان يمكّنه من التحدث سراً مع كبار محاميه في البيت الابيض. فيمكن لهيئة المحلفين ان تطلع على مضمون هذه المحادثات السرية ويمكن استجواب المحامين المعنيين امامها. الرئىس وحده يتمتع بحماية حراس الجهاز الخاص الذين يُطلب منهم الان ايضاً ان يصبحوا جواسيس ومراسلين للمدعي الخاص وهيئة المحلفين التابعة له. الرئيس وحده كان شاهداً على إجبار والدة احدى المتدربات في البيت الابيض من قبل ستار على الادلاء بشهادة حول الحياة الخاصة لابنتها. الرئىس وحده كان عرُضة لقيام احدى موظفاته، ليندا تريب، بتسجيل حديث هاتفي لصديقة وزميلة في البيت الابيض، مونيكا لوينسكي، دون علمها وبناء على اقتراح من لوسيان غولدبرغ التي كانت ضمن الجواسيس في فضيحة "ووترغيت" في عهد ريتشارد نيكسون وجرى دسّها في حملتي الانتخابية الرئاسية عام 1972. عدا ذلك، فإن كلينتون وحده اُنتخب مرتين من جانب الشعب الاميركي ليخدمهم كرئىس لمدة ثماني سنوات. وهو وحده يملك القدرة على قيادة الامة في مواجهة قضايا حيوية وصعبة تتطلب جهداً استثنائياً: الانهيار الاقتصادي في اسيا، عملية السلام المتعطلة في الشرق الاوسط، التفجير المتزامن لسفارتين اميركيتين في عاصمتين في افريقيا، الازمة في الاتحاد السوفياتي السابق وترسانة الحرب الباردة التي اصبحت في ايدي الكثير من الجهات المنفلتة، انهيار السوق المحلية للقمح والحبوب، وجود 41 مليون اميركي لا يملكون اي تأمين صحي اذ يعجز معظمهم عن دفع رسوم التأمين التجارية المتصاعدة، المعركة المستمرة بين اصحاب المشاريع والبيئة، الحاجة للتوصل الى تسوية مع شركات السكاير لحماية اطفالنا، ضرورة تخليص الحملات الانتخابية السياسية من فوضى التمويل. هذه هي المشاكل التي ينبغي للرئىس وادارته وموظفيه والكونغرس والصحافة الوطنية والاميركيين ان يركزوا اهتمامهم عليها بدلاً من تكهنات لا تنتهي حول البقعة المحفوظة بعناية على فستان مونيكا الملوث. جادل البعض بأنه ينبغي مقاضاة الرئيس بالاستناد الى المزاعم الجنسية ضده لأن الاطلاع على هذه المزاعم يقدم نموذجاً سيئاً لا يُحتذى للشباب الاميركيين. لكن من الجانب العملي، لم يكن هؤلاء الشباب سيطلعون على هذه الحماقات المزعومة لولا ان ستار ومؤيديه ووسائل الاعلام لا تكف عن متابعتها ونشرها. لم يحدث مثل هذا الشىء اطلاقاً لأحد منا او لأي رئىس سابق. فالرغبة في حماية شبابنا من اثام الرئيس هي اذاً موقف منافق عندما يكون مصدرها معسكر ستار. وجادل اخرون في معسكر ستار بان الجمهور العام يملك الحق في ان يحيط علماً بخطايا الرئىس الشخصية لان الاخلاقية احدى المؤهلات المهمة للرئاسة، رغم ان جميع رؤسائنا الاّ ما ندر لم يسلموا من الخطيئة. حتى القديس بولس علّق في لحظة الم قائلاً: "انا كبير الخطاة". ودفعت رغبة جنسية جامحة داود النبي ان يبعث باحد قادة جيشه الى جبهة القتال كي يتمكن الملك من الاستمرار في علاقته مع زوجة القائد السيىء الحظ. لكن افضل مكان لمناقشة خطايانا الشخصية وغير الجنائية هو مع ازواجنا، ومحامينا، ورجال الدين - او مع الله. كان والدي، وهو قس من اتباع الكنيسة الميثودية، يؤمن باننا سنخضع للحساب إن عاجلاً او اجلاً على ايدي الخالق، الاكثر اهلية للحكم على خطايانا الشخصية من القاضي ستار. اُنتقدت هيلاري كلينتون لانها اكدت بان زوجها ضحية لمؤامرة يمينية ضخمة. لكن حتى اذا وافق المرء على الادعاءات ضد كلينتون، فان هيلاري قد تكون فعلاً على حق. حاول ريتشارد ميلون سكايف، البليونير اليميني الذي موّل لسنين جماعات متطرفة في ولاية اركنسو كي تطارد كلينتون، ان يكافىء ستار على فشله في التحقيق الذي اجراه في قضية "وايتووتر" بمنحه عمادة في جامعة بيبردين. قبل ستار العرض واعلن انه سيترك وظيفة "المدعي الخاص" لهذا الغرض. وعندما ادت هذه الخطوة الى نتائج معاكسة - خصوصاً وسط القوى المطالبة بالانتقام من كلينتون - تراجع ستار عن قبول العرض واستأنف حربه على كلينتون، ليكون هذه المرة اشبه بشرطي وطني مكلف ضبط الجنس في البيت الابيض. هل يصدّق احد ان سكايف ويمينيين اخرين لن يغمروا بستار بسخائهم عندما ينجز مهمته المتعلقة بكلينتون؟ الجانب المشجع تماماً بالنسبة لي في كل هذه الحملة التي يشنها ستار وكلفت 40 مليون دولار هو رد الفعل الثابت للرأي العام الاميركي، كما تشير اليه استطلاعات رأي ومقالات لا تُحصى. تقدم لنا استطلاعات الرأي هذه ثلاثة استنتاجات واضحة توصل اليها الشعب الاميركي: 1 من المحتمل ان يكون الرئىس قام بمداعبات جنسية خارج اطار علاقته الزوجية، 2 من المحتمل الاّ يكون اخبرنا بكل الحقيقة حول ذلك، 3 رغم القلق الذي يبديه الجمهور العام في شأن هذين الاستنتاجين، فانه يريد وضع حد لملاحقات ستار القضائية كي يمكن للرئىس ان يواصل اداء المهمة التي اُنتخب مرتين للقيام بها. وبما ان الشعب الاميركي يمثل المرجع الاساسي الذي ابتدع كل مؤسساتنا ويحتفظ بحقه في الغاء او اصلاح النظام باكمله، فان الحكم الذي يصدره اكثر اهمية بما لا يقاس من الحرفيات القانونية للقاضي ستار. الى متى سيستمر الاميركيون في تغطية كلفة ملاحقة قضائية، مسببة للاحراج والشلل، لرئىس لم ينتخبوه مرتين فحسب بل يستمرون في تأييده؟ الى متى سيُسمح للسيد ستار، الذي ينظر معظم الاميركيين الى تحقيقاته وتغطية وسائل الاعلام لها بازدراء، بالمضي في سلوكه رغم الاستياء الشعبي منه ومن تكتيكاته؟ كفى، وكفى! * سناتور سابق. المرشح الديموقراطي للرئاسة في انتخابات 1972. حالياً سفير الولاياتالمتحدة الى وكالة الغذاء والزراعة الدولية في روما.