لن يكون من السهل على زائر بيروت، ومن يتحدث الى العشرات من مؤيدي رئيس الحكومة اللبنانية الرئيس رفيق الحريري وخصومه، أن يتجنب الملاحظة التي تؤكدها الطرقات والشوارع والجسور ومشاريع التعمير الكثيرة في المدينة، ومفادها أن الحريري ينطوي على كثافة سياسية لا يملك مثلها أرباب الشأن العام اللبنانيون الآخرون. ففي ما خص دمشق تبقى السياسة مغلقة، ومع الرئيسين الياس الهراوي ونبيه بري يبقى الهبوط الى ما دونها اغراء مُلحاً. هنا، مع رئيس الحكومة، نحن حيال مشروع يبدو للوهلة الأولى، قابلاً للتأييد قبوله للمعارضة، غير أنه يتسلّح بمواصفات ربما كان أهمها تضمين السياسة ببعض المعنى. فبعد عقود على استيلاده من التوازنات العصبية البسيطة، غدا النشاط السياسي على شيء من العضوية، بمعنى اتصاله بالانماء والاقتصاد والإعلام وبدرجة أقل، الثقافة. يسري هذا على الحريرية التي يلعب التكنوقراطيون والاعلاميون فيها دوراً لا يلعبه السياسيون، سريانه على خصومها وفي عدادهم الاقتصادي ومهندس العمارة والفنان. كذلك، وللمرة الأولى منذ سنوات طويلة، تلتحم السياسة التحاماً وطنياً مع الحريري. فمن حوله يمتد الاصطفاف من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، مُحدثاً اختراقات تطول المناطق كلها، كما تطول الطوائف جزئياً. وهذا ما قد يفسر، ولو في حدود نسبية، حقيقة أن بعض قدامى اليساريين الذين فكروا ذات مرة في الانقلاب على نظام الطوائف، وجدوا انفسهم ينتهون في الخانة الحريرية وطاقمها. وتتسم السياسة والمواقف المرتبطة برئيس الحكومة اللبنانية بنبرة جديدة هي الأخرى، مفادها تحميل المسؤولية للبنانيين تبعاً لما صنعوه بأنفسهم ولأنفسهم في الحرب. وبغض النظر عن الطريقة التي تجري فيها المحاسبة، وتوزيع الحصص، يبقى هذا الكلام مغايراً للغات السياسية اللبنانية التي تترجّح بين تمجيد الحرب واتهام "الخارج" و"حروبه على أرضنا". فحين نمد هذا المنطق الى الحيّز الاقتصادي ببُعده العالمي الواسع، يغدو من الممكن قبوله أو رفضه، الا أن الاستهانة به أو ارجاعه الى اعتبارات محلية صغرى، يستحيلان. والحال أن بعض الديماغوجية في معارضة الحريري هو ما ينطوي على هذه المعاني في شكل مقلوب. فهنا تحل درجة، ولو ضمنية أحياناً، من تقديس الحرب وقواها وعقليتها، محل المطالبة، الضمنية هي الأخرى، بالمسؤولية الذاتية. كذلك تحل حِرَفية محلية تعادي "العولمة" و"الشرق أوسطية" مما يُرسم صورةً للحريرية كوجهة عالمية متساوقة مع التطورات التقنية. أما المدافعون عن "الذاكرة" فيغيب عنهم أن مقاتلي الأسواق هم الذين دمّروا هذه الذاكرة المزعومة. وبالقياس الى منافسيه من أقطاب السياسة اللبنانية، يبدو الحريري الأقل سوريةً، بالضبط لأنه الأكثر امتلاكاً لمشروع لبناني من طراز ما. وهنا لا يؤتى بجديد حين يُسجّل أن الكثير من النقد الموجّه اليه، أجاء من كبار الأقطاب أم من صغار المعارضين، نقد موحى به أو مُشجّع عليه، كما لا تني التسريبات الصحافية تبدي وتعيد. وعلى نطاق أعرض، أقل سياسية وأكثر اتصالاً بثقافة المنطقة وقيمها، يصعب أن لا ننتبه الى الجديد الذي حملته الحريرية. ف"البطل" لم يعد الضابط الذي يقود انقلاباً عسكرياً، أو المغامر، أكان مدنياً أم رجل دين، الذي يدعو الى المواجهات واسقاط الأنظمة والتحكم في المصائر. انه، للمرة الأولى ربما، رجل الأعمال الناجح الذي هو أحد أبرز "الأبطال" في يومنا الراهن على نطاق عالمي. مع هذا فالحريرية لا تُحاكم كما يُحاكم طرف سلطوي عادي في بلد عادي، لم يعرف الحرب والاحتلالات، ولا تشكلت طبقته السياسية الجديدة من رجالات الحرب أنفسهم. وفي هذا المعنى، وكائنةً ما كانت درجة التمايُز، فإن ما يمثله رئيس الحكومة الحالي يبقى جزءاً لا يتجزأ من الوضعية هذه. فهو شريك في المؤسسات والحصص بأسوأ المعاني المتعارف عليها لادارة المؤسسات وتوزيع الحصص في لبنان. وهو، الى ذلك، شريك أساسي في اشاعة الوضع الميليشياوي الذي لم تحل شكواه المتكررة منه دون مساهمته النشطة في "توسيع انتاجه". وحين يكون اشتغال العملية الديموقراطية محك الأحكام، لا يمكن النظر الا بشديد القلق الى السلوك الحريري في ما خصّ مؤسسات "المجتمع المدني" صحفاً وأحزاباً ونقابات. وما يرسم حداً كابحاً للطموح الحريري يبقى دورانه داخل الفنجان السوري، مع ما يتصل بهذا الأخير من "مقاومة" لا بد من استمرارها ما دام التوصل ممنوعاً الى حل سلمي لبناني - اسرائيلي. وفي انعكاس التركيبة هذه على وضع الداخل، وهو انعكاس شفّاف بطبيعة الحال، يبدو من المستحيل تحول الحريري، كائنةً ما كانت نواياه، الى فؤاد شهاب آخر. والحال أن التعايش مع الواقع القائم لا يملك الا تكريس الحريرية في الموقع السني الذي انطلقت منه، مع تطريز حواشيها بتمثيلات مختارة من باقي الطوائف. يدلنا الى هذا بعض المواقف الايديولوجية المعلنة حملة الزواج المدني وبعض التحالفات السياسية الجماعة الاسلامية، ناهيك عن اعتبارات أكثر بنيوية كالتركيب المذهبي للنواة الصلبة في طاقم رئيس الحكومة. وبعد كل حساب ففي ظل التكريس الطوائفي والتفتيتي الحاد الذي تُفاقمه العوامل الاقليمية والحدودية، سيكون من العبث الرهان على سلطة واحدة تمسك المجتمع بالحد الأدنى من الطائفية. وبكلام آخر، فإن الوجود السوري والمقاومة واستمرار الاحتلال الاسرائيلي للجنوب تجدد طرح مشكلة بناء السلطة اللبنانية ما-بعد-المارونية أكثر بكثير مما يستطيع الحريري توفير حل لهذه المشكلة. والراهن أن الحركة داخل الفنجان لا تحرم صاحبها امكان الانتباه الى الهمّ المسيحي فقط، أو تشكيل جاذبية شيعية خارج نطاقي "أمل" و"حزب الله"، دع جانباً توليد وطنية لبنانية بديلة، بل تحرمه أيضاً امكان تشكيل كتلةٍ لسلطة متجانسة أخرى. وتحت هذا العنوان تندرج وقائع عدة يتصدّرها الجفاء القائم، والحتمي بمعنى ما، بين رئيس الحكومة وقائد الجيش. فإذا وجد رئيس جمهورية عادي ان تفتيت الصلاحيات بموجب الطائف يلغي الكثير من رئاسته، وجد رئيس الحكومة غير العادي ان تمايُزه وخصوصيته لا يفعلان الا في اتجاه واحد: امتصاص المعارضة التي كانت مرشحة حكماً للاصطدام بالدور السوري، على ما كانت الحال في الأشهر الأخيرة من حكومة الرئيس عمر كرامي. بهذا تتضافر الوظيفة الحريرية، المطلوبة والمكروهة سورياً في آن معاً، مع الضعف الذي أنزلته الحرب بالمؤسسات والتقاليد السياسية الجنينية، ليجعلا تجربة رئيس الحكومة اللبنانية تختلف تماماً عن تجربة مثيله الايطالي بيرلسكوني مثلاً. ففي الحالة الأخيرة لا يبدو "المليونير" منقذاً للبلد والدولة والمجتمع، تتمثل فيه خلاصيةٌ يُرتَهن بها استمرار ايطاليا نفسها. بل يبدو سياسياً أقل عادية من السياسيين، الا أنه أصغر بكثير من الحياة السياسية نفسها، وطبعاً أضأل من السلطة القضائية. وما يصح في الشق هذا يصح في الشق الاقتصادي - الاجتماعي بأوسع معانيه. ذلك ان التغلب على المشاكل المزمنة للإدارة يبقى مستحيلاً في ظل الاستكانة الى التفتيت والتعادل السياسيين وما يتفرع عنهما من محسوبيات وتنفيعات يمارسها الجميع بحماسة توسيعاً لحصصهم. وغني عن القول ان هذا التعاظم البيروقراطي العاجز يتعارض، قبل اي شيء آخر، مع التوجهات النقدية التي يؤمن بها رئيس الحكومة ومساعدوه الاقتصاديون، بقدر ما يتعارض مضمونه الطائفي مع أية رغبة توحيدية. وفيما يناط بالضرائب غير المباشرة طرد الضرائب المباشرة، ومن ثم اعفاء الأغنياء من مسؤولية الحرب، يتم التستر تماماً على أن الاعتبارات السياسية والأمنية لا تزال تشكل عاملاً طارداً للاستثمار في بلد كلبنان، أكثر مما يشكل الاعفاء الضريبي عنصراً جاذباً له. أما التقدم الذي يمثله اقرار مئات القوانين في السنوات الأخيرة بوصفها، بغض النظر عن الموقف التفصيلي من كل واحد منها، إطاراً عاماً لسياسات الدولة الاقتصادية، فيقابله تردي المؤسسات والأداء المؤسسي، ناهيك عن ضعف صدقية الأرقام أتعلقت بالدين العام أم بالناتج المحلي، أو اتصلت بالطبيعة الفعلية لقطع الحساب اللبناني الخ. وفي مقابل تحسين سعر صرف الليرة وتثبيته، في معزل عن تحديد موقع هذا الانجاز في مراتب الأولويات الاقتصادية، لا يزال التحسين والتثبيت هذان يرتبطان بشخص رئيس الحكومة. وشخصنةٌ كهذه للاقتصاد محكومة باعتبارات التغطية السياسية التي أملتها الظروف الاقليمية، ومرفقةٌ بتصعيد الخرافات الخلاصية في المجتمع، ليست بحال من الأحوال عنصراً مأموناً. وفي النهاية لا يستطيع أيٌ كان أن يستبعد كلياً الاحتمال الكارثي الأقصى: ففي ظل استمرار التوتر في المنطقة، وهو ما يُساق لبنان سَوقاً للارتباط به، وفي ظل عمليات "حزب الله" وذهنية بنيامين نتانياهو الانتقامية، مَن الذي يضمن أن لا يُمسّ بسوء هذا التعمير النُصبي والبارانوي المتجمع في العاصمة دون سواها، والذي ارتُهنت الأجيال لسداد ديونه؟ من الذي يضمن ان الكوابيس صارت جميعها من الماضي الذي كان في عداده تمنع أميركا ومعها فرنسا وبريطانيا وإيطاليا عن ضمان لبنان ذات مرة؟ * كاتب ومعلّق لبناني