قبل شهر أو نحوه قرأت تقريراً لأحد مراكز الأبحاث في واشنطن يقول ان صدام حسين سيسعى الى مواجهة جديدة مع مجلس الأمن الدولي في الخريف. ووضعت التقرير جانباً ونسيته، ثم انفجرت مواجهة جديدة بين مجلس الأمن والعراق، وعدت الى التقرير وما تضمن من معلومات وتوقعات. كاتب التقرير لا يعرف بالضرورة العراق، ولكن يعرف السياسة الأميركية، ويعرف بالتالي ان الأميركيين يفضلون ان تبقى العقوبات على العراق الى الأبد، وهو ما صرح به المندوب الأميركي بيل ريتشاردسون، مع انه برر ذلك بالقول: "ان العقوبات ستبقى الى الأبد، أو حتى ينصاع العراق انصياعاً كاملاً للقرارات الدولية". وهنا المشكلة، فالعراق يقول انه نفذ المطلوب، مع انه يكذب، كما كذب عندما صرح بأنه لا يملك غاز الأعصاب في اكس، ثم اعترف بانتاج 3.5 طن منه. من ناحية أخرى، تقول لجنة الطاقة الذرية الدولية ان برنامج انتاج الأسلحة النووية في العراق دمر بكامله، في حين ترى اللجنة الخاصة التابعة لمجلس الأمن اونسكوم ان هذا غير أكيد. طبعاً لا يجوز ان يعاقب شعب العراق على الشبهة، فالعقوبات تصيبه وحده ولا تصيب النظام، والأكيد بين موقفي الولاياتالمتحدة، المختبئ وراء مظلة الأممالمتحدة، وموقف العراق، ان النظام العراقي لم يعد يشكل خطراً على أحد، فمخططاته العدوانية دمرت مع ما دمر من قواته وأسلحته، وإذا كان خسر الحرب البرية في مئة ساعة وهو في أوج قوته، فإن من غير المنطقي ان تقنع الولاياتالمتحدة أحداً اليوم، بأن العراق يشكل خطراً على جيرانه. وبما ان الولاياتالمتحدة لا يهمها من جيران العراق أحد سوى اسرائيل، فانها تجد من الصعب جداً ان تنظم مرة أخرى تحالفاً عسكرياً ضد النظام العراقي رداً على تحدياته. وهي فشلت في إحياء التحالف القديم في كانون الأول ديسمبر الماضي ضد العراق، عندما كانت تدافع عن موقف أفضل من موقفها اليوم، فلم تجد سوى "صوت سيده" بريطانيا الى جانبها. لذلك فالأرجح ان تفشل من جديد هذه المرة، فلا يؤيدها غير بريطانيا. ويبدو ان إدارة كلينتون تقدر انها لا تستطيع التخطيط لعملية عسكرية، لذلك فهي تكتفي بالتهديد، إلا أنه تهديد ضعيف ومكشوف، وصدام حسين يعرف ذلك، ولا يتراجع عن تحديه مجلس الأمن بقرار وقف التعاون مع المفتشين الدوليين. ومع ان وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت انذرت العراق في مقال لها قبل يومين باجراءات سريعة حاسمة تأييداً للجنة الخاصة إذا لم يتراجع، فهي لا تجد من يصدقها، خصوصاً بعد أن تبين انها أمرت السفير الأميركي ريتشاردسون بتغيير موقفه بعد أن كان اقترح على مجلس الأمن ان يكلف المفتشين القيام بعمليات مفاجئة في مواقع مشتبه بها لرد التحدي الى العراق. وانكرت اولبرايت انها طلبت ذلك، ثم اعترفت به. وإذا كانت اولبرايت لا تريد استثارة العراق بشكل محدود، فهي لا تسعى بالتأكيد الى مواجهة عسكرية جديدة. خارج نطاق العراق، هناك مشكلة صدقية هائلة تواجهها الادارة الأميركية في الشرق الأوسط، ففشلها في تنفيذ أي تهديد وجهته الى اسرائيل افقدها هيبتها من ناحية، وجعل الصديق قبل العدو، من ناحية أخرى، يخشى أن يرتبط بأي سياسة معلنة لها، توقعاً ان تغير رأيها فجأة وتتراجع. ولعل أفضل مثل على تراجع الأميركيين هذه السنة هو المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية، ففي كانون الثاني يناير قدمت الولاياتالمتحدة اقتراحات غير مكتوبة لانسحاب اسرائيلي ثانٍ من الأراضي المحتلة تبعتها مفاوضات مكثفة. وفي أيار مايو استقدمت اولبرايت المفاوضين الفلسطينيين والاسرائيليين الى واشنطن، واعطتهم اسبوعاً للاتفاق أو تعيد الولاياتالمتحدة النظر في موقفها. ومضى الاسبوع واسبوع آخر، ولم تفعل الولاياتالمتحدة شيئاً، ثم قررت ان تترك المفاوضين وشأنهم، فيما كان الرئيس كلينتون يوجه رسالة الى مالكولم هونلاين، رئيس مؤتمر المنظمات اليهودية الكبرى، يعد فيها بألا تضغط ادارته في المواضيع التي تعتبرها اسرائيل أمنية. وبما ان اسرائيل تعتبر كل موضوع أمنياً، فإن المبادرة الأميركية والتهديدات المرافقة انتهت الى لا شيء، حتى وان استؤنفت المفاوضات. اليوم يشغل الرئيس كلينتون ما هو أهم من العراق واسرائيل، لذلك يمضي صدام حسين في تحدي مجلس الأمن الدولي، وتمضي الولاياتالمتحدة في تهديداتها الفارغة، ويدفع الشعب العراقي ثمن اخطاء نظامه، وخطايا السياسة الأميركية، الى أجل غير مسمى، يتمنى الأميركيون أن يكون "الى الأبد".