في مقابل كل اشارة تصعيد تركية باتجاه سورية تؤكد دمشق "الحرص كل الحرص على الحوار". ومقابل كل خطوة تعمق "التحالف العسكري" بين تل ابيب وانقرة تعمل الديبلوماسية السورية على "تحصين" علاقاتها الاقليمية خصوصاً مع "الحليف الاستراتيجي" في طهران... مع إقامة "همزة وصل" معه عبر الجغرافيا العراقية. وآخر حلقات التصعيد التركية تصريحات رئيس الوزراء مسعود يلماظ في 24 الشهر الماضي، عندما حذر سورية من "مغبة اطماع توسعية في محافظة هاتاتي"، أي منطقتي انطاكيا والاسكندرون التي اقتطعتها في العام 1939 فرنسا من سورية الدولة المنتدبة عليها. وفي إشارة الى دمشق قال يلماظ: "من يضع عينه على الأراضي التركية مصيره العمى". وكان الرد السوري متجهاً نحو التهدئة، إذ ان وزير الاعلام الدكتور محمد سلمان أكد رداً على يلماظ "حرصنا كل الحرص" على الاستمرار في "الحوار مع جارتنا تركيا ومع الشعب التركي"، رافضاً الخوض في أمور تركيا لأنه ليس هناك "لدينا أي مصلحة في التدخل في شؤونها الداخلية". لكن المسؤول السوري رفيع المستوى لم ينف محاولات أنقرة المتواصلة التصعيد مع بلاده ونقل مشاكلها الداخلية الى الخارج. وقال: "هناك مشكلة داخلية في تركيا وهناك مشاكل بين تركيا والدول المحيطة بها، وعندما توجه التهم الى سورية يعني ذلك حرف نظر الشعب التركي الى قضايا خارجية مفتعلة". وفي إشارة الى "التحالف" مع أنقرة قال سلمان: "ان مصلحة هذا الشعب هي مع العرب والمسلمين في الحاضر والمستقبل". وفي الواقع فإن هذا الحلف هو المعيار الاساسي للمزاج السياسي بين أنقرةودمشق. بل انه كان السبب الاساسي لأمرين: الأول فشل المحاولات الجدية التي قام بها الجانب السوري للحوار مع تركيا، الثاني، إعادة دمشق بناء علاقاتها الاقليمية انطلاقاً من لحظة الاعلان عن التحالف في بداية العام 1996. وعلى أمل استمرار الحوار الهادئ بين البلدين، أرسلت سورية معاون وزير الخارجية السفير عدنان عمران الى أنقرة في بداية الشهر الجاري استكمالاً للمبادرة التركية التي بدأتها في شباط فبراير الماضي عندما زار رئيس دائرة الشرق الاوسط، كوركت تسيترغه دمشق، في أول محادثات مباشرة بين الطرفين منذ العام 1995، ما مهد للقاء وزيري الخارجية فاروق الشرع واسماعيل جيم في الدوحة في آذار مارس الماضي. لكن محادثات السفير عمران مع المسؤولين الأتراك لم تسفر عن النجاح المتوقع. وبدلاً من ان يعلن الوزير جيم نيته السفر الى دمشق كما كان متوقعاً للمضي قدماً في تقريب وجهات النظر، فإنه أعلن وهو يودع السفير عمران عن نيته زيارة اسرائىل. وثلاثة أيام فقط فصلت بين ختام محادثات الوفد السوري وانطلاق محادثات جيم في اسرائيل. وتتهم أنقرة الجانب السوري بتوفير الملجأ لزعيم "حزب العمال الكردستاني" عبدالله اوجلان الذي يشن حرباً ضد الحكومة المركزية منذ العام 1984، بينما تؤكد دمشق عدم وجوده في أراضيها. ويشير خبراء الى ان السلطات السورية تسجن أكثر من 400 شخص من مؤيدي الحزب. وتتعلق نقطة الخلاف التقليدية الثانية بملف المياه، ذلك ان الجانب السوري يطالب الطرف الأخر بضرورة الدخول في مفاوضات جدية للتوصل الى "اتفاق نهائي يتضمن قسمة عادلة" لمياه الفرات الذي تتشاطأ عليه تركيا وسورية والعراق، للعمل بهذا الاتفاق بدل "البرتوكول التنفيذي" الذي توصل إليه الطرفان في العام 1987 ونص على ان تصرف تركيا ما يزيد عن 500 متر مكعب في الثانية من إجمالي التدفق. وتستند المطالب السورية الى عدد من الاسس منها: ان نهر الفرات دولي وتنطبق عليه القوانين والمعاهدات الخاصة بتقاسم المياه التي تتشاطأ عليها دول عدة. كما ان الاتفاق المرحلي للعام 1987 نص على انه "مرحلي الى حين ملء سد أتاتورك" أحد أكبر السدود ال 22 التي تقيمها تركيا في اطار "مشروع جنوب شرقي الاناضول" غاب. ويقول خبراء سوريون ان ذلك يؤسس لضرورة التوصل الى "قسمة عادلة" على أساس ثلاثي ما يعني ان يحصل كل طرف على ثلث اجمالي التدفق البالغ ألف متر مكعب في الثانية، في حين ان القسمة الحالية - المرحلية على أساس ثنائي سوري - عراقي وتركي. علماً ان الجانبين العربيين أخذا في 1990 تنفيذ اتفاقهما الذي قضى بأن تصرف سورية 58 في المئة مقابل احتفاظها بالباقي مما تحصل عليه من تركيا. وكان ملفا الأمن والمياه كفيلين بتعكير العلاقات بين دمشق وانقرة، التي ازدادت تعقيداً من دخول ملف أهم واخطر على الخط بينهما، وهو العلاقات العسكرية بين أنقرة وتل أبيب. ويلخص مسؤولون سوريون منبع الاستغراب بالآتي: "ان يحصل التحالف في بداية العام 1996 أي في وقت كانت مفاوضات السلام تبني الآمال الكبيرة لدول الشرق الاوسط، اضافة الى ان الضباط الاتراك الذين حاربوا الاسلاميين في بلادهم وخصوصاً حزب "الرفاه" على أساس انهم أصوليون، تحالفوا مع متطرفين يهود في اسرائىل". لذلك فإن ما يقلق السوريين انه في حين "تحتضر" عملية السلام يزداد التحالف عمقاً الى حد صارت الطائرات الاسرائيلية تحلق على الحدود الشمالية لسورية، وبنى الاسرائىليون محطات تنصت قربها إضافة الى تبادل الزيارات بين رئيسي الأركان ووزير الدفاع والخبراء العسكريين وإجراء مناورات بحرية مشتركة في مطلع العام الجاري. ولا ينجو الاردنيون من الانتقاد السوري بسبب المشاركة في هذا التحالف. وكان آخر تلك الانتقادات تصريحات رئيس الاركان العماد علي أصلان. وقال ان "التحالف بأبعاده يستهدف ... تهديد الامن القومي وممارسة لعبة التخويف والضغط على العرب عامةً وسورية بخاصة لتمرير المخططات العدوانية والتوسعية في المنطقة تنفيذاً لأطماع الصهيونية والطورانية". أسف للمساهمة من دون ان يسمي أطراف هذا التحالف قائلاً: "من المؤسف ان بعض الأنظمة العربية في هذا التحالف المشبوه والمريب ضاربةً هذه الدول عرض الحائط بمصالح الأمة متنكرة لانتمائها القومي متجاهلة المتطلبات الضرورية للأمن العربي". وتساءلت صحيفة "الثورة" الرسمية قبل أيام: "ألا يخجل بلد عربي من زج نفسه في مثل هذا الموقع المشبوه؟ ما الذي يضطره الى ذلك؟". وأوضحت: "لا شك ان استجرار الاردن الى الموقع المضاد للمواقف والمصالح العربية ... يشكل مأساة كبرى". في مقابل ذلك يبدو مفهوماً ان تسرع دمشق تقاربها مع بغداد الذي انطلق في أيار مايو العام الماضي، الى حد صدور كلام عن إعادة فتح السفارتين المغلقتين منذ أيلول سبتمبر 1980 بعدما أنجز البلدان الخطوة اللوجستية الأهم وهي إعلانهما في منتصف الشهر الماضي الاتفاق على إعادة تشغيل انبوب نفط كركوك - بانياس. وفيما يساعد التقارب السوري - العراقي في تعزيز العلاقات السورية - الايرانية ويعطيها قوة جغرافية - عملية، فإن انبوب النفط ينافس انبوب النفط العراقي - التركي... وكلا الأمرين يقفان أمام "التحالف" بين أنقرة وتل أبيب.