كرّست القناة الثقافية الاوروبية "ارتيه" Arte، خلال الاشهر الماضية، سلسلة من السهرات الوثائقية في مناسبة مرور خمسين سنة على قيام دولة اسرائيل او خمسين سنة على ضياع فلسطين، وفي 22 من الشهر المقبل، تخصص "ارتيه" سهرة للصراع السوري - الاسرائيلي. وكان اقتُرح على المخرج السوري، عمر اميرالاي ، ان يشارك في هذا البرنامج الى جانب مشاركة مخرج اسرائيلي هو آموس غيتاي كي يدلي كل منهما بشهادته او شهادة جيله في علاقته بهذا الصراع، وان يقدم كل منهما رؤيته في موضوع المفاوضات ونظرته الى السلام ومستقبل المنطقة. وتجدر الاشارة الى ان المخرجين ينتميان الى جيل واحد، وكل منهما شارك في حرب 1973. يتضمن البرنامج ثلاث فقرات تتناول الموضوع من زاوية شخصية فتركز على تجربة ووعي كل مخرج ومن خلاله، تجربة ووعي جيله للصراع مع الآخر: تعرض الفقرة الاولى فيلماً قصيراً 18 دقيقة طلب فيها من كل مخرج ان يروي كيف سمع بالآخر لأول مرة في حياته، كيف سمع السوري بالاسرائيلي والعكس. وتقدم الفقرة الثانية فيلماً طويلاً 50 دقيقة يتحدث فيه كل مخرج عن علاقته بالصراع، في حين يقدم كل من اميرالاي وغيتاي، في الفقرة الثالثة 10 دقائق، قراءة لافلام الآخر ويفسر الى اي حد يمكنه ان يتعرّف على نفسه من خلال عمل الآخر. قام كل مخرج بتنفيذ الفقرات الثلاث على حدة ولم يجلسا وجهاً لوجه. يقول اميرالاي: "لم يتم اي لقاء بيننا ولن يتم على رغم معرفتي الجيدة بآموس غيتاي منذ عشرين عاماً باعتبار انه مخرج تقدمي له مواقف شجاعة تجاه القضية الفلسطينية وتجاه عملية السلام، وخطابه السياسي مدان في اسرائيل". وكما يعيش غيتاي بين فرنسا واسرائيل، كذلك يعيش اميرالاي بين دمشق وباريس. اما الدافع الذي شجع المخرج السوري على المشاركة في مشروع كهذا فيفسره قائلاً: "لا شيء شجعني سوى التحدي. امام مشروع كهذا، يشعر المرء نفسه مضطراً، للمرة الاولى، على ان يقوم بقراءة وجردة شاملة لعلاقته مع هذا الصراع وليس فقط بتأملات مجتزأة وظرفية كالتي اعتدناها في تعاملنا مع الموضوع، خصوصاً اننا بدأنا ندخل في ثبات في علاقتنا معه بسبب ما شابه من تداخلات ومن ارتباكات ومن مآزق تجعلنا، في بعض الحالات، نعرض عنه ونتلافى التفكير فيه كي لا نزيد انفسنا حزناً ويأساً". في بعض المساحات، عمل عمر اميرالاي بالضمير الاول، وفي الفيلم الوثائقي الطويل، قدم شهادة سعدالله ونوس المؤثرة انطلاقاً من التفاهم الجوهري بينهما على امور اساسية ومشاعرهما العميقة في العلاقة مع الصراع. ويشير اميرالاي الى ان "اللحظة التي كان يعيشها سعدالله والتي منحته الصفاء والنظرة الثاقبة للاطلالة على ما سينحو اليه الصراع، جعلتني انسحب من الظهور في الفيلم لأترك الكلام لسعدالله كي يكون هو الناطق بلسان جيلنا". "وهناك اشياء كثيرة كان يمكن ان يقولها المرء…"، عنوان الفيلم الوثائقي الذي اخرجه اميرالاي مع الكاتب المسرحي قبل ثلاثة اشهر تقريباً من وفاة ونوس بعد صراع طويل مع مرض السرطان، وذلك في 15 ايار مايو 1997. والمصادفة في تاريخ رحيله مع يوم اعلان قيام دولة اسرائيل عام 1948 تبدو مزعجة في هذا السياق، خصوصاً عندما نسمع ونوس يقول في مطلع الفيلم: "اعتقد ان اسرائيل، واني اقولها بالمعنى الحرفي وليس بالمعنى المجازي، سرقت السنوات الجميلة من عمري وانها افسدت على انسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح وأهدرت فيه الكثير من الامكانيات…". تعب سعدالله ونوس الشديد والظاهر جلياً في التسجيل لم يمنعه من ان يكون متألقاً في الكلام عن تجربته وتجربة جيله في الصراع مع اسرائيل. يعلق اميرالاي: "اعتقد انه إن كان هناك موضوع غال على قلبه ويجعله يغالب مرضه فهو الهم العام. وجوهر هذا الهم العام، في الاساس، هو الصراع مع اسرائيل. كل ما حدث وكل ما عشناه وما ترتب عن هذا الصراع، على مستوى اوضاعنا الداخلية، لم يكن الا نتيجة لهذه المشكلة الاساسية". لكن المخرج يتوقف عند هذه النقطة، يأخذ مسافة منها، ومن باب التأمل يضيف رأيه الخاص: "لا ادري الى اي مدى هذا صحيح. لا ادري الى اي مدى كان وجود اسرائيل او عدم وجود اسرائيل جنبنا تلك التجربة السياسية التي عاشتها مجتمعاتنا والتي عاش المجتمع السوري نتائجها السلبية حتى اليوم. لا ادري الى اي حد كانت اسرائيل هي المسبب الحقيقي لقيام انقلابات عسكرية في سورية. ان هذا المجتمع، بتركيبته منذ الاستقلال، مجتمع بين معترضتين، فالى اي حد كانت متاحة له فرصة افضل كي يشكّل نفسه كمجتمع وان يعيش تجربة مختلفة؟ نعرف مجتمعات كثيرة تشبه سورية لا تعاني مشكلة اسرائيل، وهذا لم يمنعها من ان تدخل في دوامة الانقلابات العسكرية، في ان تغوص في وحل التخلف وان تفوّت على نفسها فرصة كي تتشكل المجتمعات بشكل افضل وديموقراطي… اتناول هذا الموضوع بكثير من المسافة، وقد يكون نوعاً من التبسيط السياسي ان نحمّل دائماً اسرائيل سبب علّتنا". لم يجنّب سعدالله ونوس، في شهادته، الانظمة العربية ولا الاوضاع العربية مسؤولية تخلفها وقمعها لشعوبها وافتقارها للديموقراطية، وبدت حال مرضه المتقدمة مرتبطة الى حد ما بالوضع المأسوي للعالم العربي التي يفسرها المخرج كالتالي: "ربما كانت طبيعة سعدالله الشخصية والتوتر النفسي الذي عُرف عنه انعكاساً للاحداث او للاحباطات، تمثلت بانعكاس فيزيولوجي اثّر عليه اكثر من غيره. ولكن، لا شك في ان الواقع هو واحد على الجميع. كل شخص عاش الاحباطات من موقع حساسيته وطريقة استيعابه لهذه الاحداث بالذات". يركّز الفيلم على المستشفى الذي كان يعالج فيه الكاتب المسرحي في دمشق، على المرضى الآخرين، وعلى المرض الذي يأخذ هنا دلالة رمزية، ويمثل، بحسب اميرالاي، "العجز عن القيام بتغيير اي شيء في الواقع الذي نحن منجرفون اليه. وأخذ المرض ايضاً نوعاً من التعميم كي لا يكون مرض سعدالله فقط، بل كلنا مرضى، كلنا ونوس في المجتمع السوري. رسمت له هذا الاطار، وبالتالي، خرج الفيلم من زاوية تناول فرد كي يصبّ في سياق ما يعيشه مجتمعنا ككل". "الصراع السوري - الاسرائيلي" هو عنوان سهرة "ارتيه"، لكن الفيلم لم يكن إلا الصراع العربي - الاسرائيلي، ذلك ان اميرالاي وونوس ارادا التأكيد على ان "ليس هناك صراع سوري - اسرائيلي" بل انه "نتيجة لضياع فلسطين ولقضية فلسطين". وتالياً، لم يتوقف الفيلم إلا عند المفاصل الاساسية: 1948، هزيمة الپ67، حرب الپ73، زيارة السادات الى اسرائيل عام 1977، حرب الخليج واتفاقيات السلام: كامب ديفيد، مدريد واوسلو… يقول اميرالاي: "لم يتوقف المرء عند الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 على رغم اهميته، ولم يتحدث عن الانتفاضة. لكن الحديث تمحور على الاحداث التي خلقت منعطفات وادت الى تحولات جذرية في موضوع الصراع العربي - الاسرائيلي، وبعلاقة العرب مع اسرائيل. في المقابلة التي دامت اربع ساعات، تكلم سعدالله عن امور كثيرة، إلا ان الاختصار كان لا بد منه من اجل فيلم يدوم خمسين دقيقة. كان يجب تحقيق المعادلة الصعبة بين القول والبناء الفني الاخير. وكان العمل شائكاً لأنه قائم، في الاساس، على مقابلة يتيمة، على الكلام". وكلام سعدالله ونوس بالغ التأثير، ولا بد من التوقف عند بعض ما قاله في التسجيل عن هزيمة 1967 التي كان خصّها واحدة من اولى واقوى مسرحياته "حفلة سمر من اجل 5 حزيران" نشرت عام 1968: "… عندما تأكدت لنا الهزيمة باعلان استقالة عبدالناصر، احسست بأنني سأموت من الحزن، احسست بأنني سأختنق. بكيت وبكيت وكان لدي شعور بأن تلك هي النهاية. نهاية ماذا، لا ادري. ولكن، أحسست ان تاريخاً قد توقف، ان كل مشاغلي وما يربطني بالحياة وما يمثل وجودي انطوى في غيابه ماض ينبغي ان ادفنه وان اكفّنه كي استطيع الاستمرار الى الغد. ولكن، ماذا كان يحمل لي هذا الغد؟ لا ادري". حمل له صراعاً طويلاً مع المرض، وايضاً نتاجاً مكثّفاً نقل رؤيته عن العالم وعن الواقع وعبّر عن جيل بأسره وعن غضب عام. وبالنسبة الى عمر اميرالاي، يبقى الفيلم كذكرى أليمة إذ يقول: "كان يود المرء ان يبقى سعدالله على قيد الحياة ولم يصنع الفيلم. عندما اخذت شهادته، اخذت معه شهادات اخرى لأن المشروع، في البداية، كان ينص على اربع شهادات من جيل واحد. لكن الشهادات الاخرى لم تصمد امام قوة شهادة سعدالله، اقول ذلك كي لا يفسّر تصويري له استغلالاً لمرضه. هذا لم يحصل ابداً. ومن جهة اخرى، مهمة السينمائي ان يصنع فيلماً يحتوي على مواصفات التأثير وان يصل الى الناس، خصوصاً عندما يخاطب رأياً عاماً عالمياً وجمهوراً لا يعنيه هذا الموضوع. فالخطاب الفكري والسياسي المجرد لا يكفي، ولكن، عبر قناة المشاعر ومخاطبة القلب والاحاسيس، يصبح المعبر اضمن، ومن خلاله يمكن نقل الرسالة". وكان للدولة في سورية ملاحظات على الفيلم يفسرها المخرج كالتالي: "لم تتعلّق الملاحظات بجوهر علاقة جيلنا او مجتمعنا بهذه القضية، وانما بقراءة الاحداث السياسية الجسيمة والمفصلية التي مررنا بها على امتداد نصف قرن في الصراع مع اسرائيل. ومن المؤسف ان تكون هناك ملاحظات وتحفظات من الجهات الرسمية في سورية على قراءة بعض المحطات السياسية مما يُفقر الموقف، في رأيي، ويجعلنا في موقع احادي الجانب للتعامل، ليس فقط مع تاريخ البلد، وانما مع تاريخنا الشخصي ايضاً. اخشى ان يكون هذا التوحيد للرأي وللنظرة في التجربة، سواء الشخصية او العامة، وجعلنا صوتاً واحداً، اضافة اخرى الى ما اوصلتنا اليه الاحوال. عدا ان التحفظات كانت تود ان يكون الفيلم وقراءته لتاريخ هذا الصراع مطابقة تماماً مع الرأي الرسمي، لكن التأثير على الرأي العام الاوروبي يعنينا جداً وهو ينفر من اي خطاب رسمي". ويضيف: "اعتقد انه عندما يُترك للمثقف هامش من اجل قراءة مختلفة تصب في التوجه العام لعلاقته مع هذا الصراع، قد يُغني اي قراءة ويجعل المثقف يدخل في مساحات من الصراحة والصدق الوجداني والضميري في الحديث عن هذه القضية ما لا يتجرّأ الرأي الرسمي على الوصول اليه. وهنا، لا بد ان اشير - وأزين كلماتي - الى انها المرة الاولى، ربما، يتم فيها تناول صراعنا مع اسرائيل والحديث عن اسرائيل وانشاء اسرائيل بهذه الجرأة وهذه الصراحة في اعلام غربي، وفي سياق لا يُدان فيه هذا الكلام ويُقبل كرأي آخر في مواجهة رأي اسرائيلي. سمعنا جورج حبش ومتطرفين آخرين في سياق اداني، لكن الكلام هنا يدخل في سياق رأي يعبّر عن جيل وعن مجتمع كامل. الظرف مختلف فعلاً". ومما يقول سعدالله ونوس في الفيلم عن الصراع مع اسرائيل: "… هذه الحرب اعود واكرر قائلاً انها لن تنتهي إلا إذا تم تغيّر جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في اسرائيل من جهة، وفي البلاد العربية من جهة اخرى. وبما اننا الآن، جميعاً، على ارضية متفاوتة وانما ارضية واحدة من اليأس، اعتقد ان التاريخ قد يجبرنا تحت وطأة هذا اليأس على التفكير جدياً بأن نغيّر نمط تفكيرنا وان نحاول تبين هذه الضرورة التاريخية بالتغيّر والتجدد والتقدم…". وفي النهاية، تبقى الحسرة طاغية على كلامه: "… اعتقد ان جيلنا سيمضي الى مثواه الاخير وفي رأسه، في قلبه، تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة هي بالضبط علامة العمر الذي عاشه، علامة الخيبة التي تذوّق مرارتها، لأن اسرائيل ستكون باقية عندما يذهب جيلنا الى نهايته". * صحافية لبنانية من أسرة "الحياة"