هل تحقق "العروبة" لزعيم المعارضة الموريتاني احمد ولد داداه ما عجزت "الزنوجة" ان تحققه له خلال الأعوام السبعة الماضية؟ يطرح هذا السؤال في ضوء اكتمال القطيعة بين ولد داداه والماركسيين السابقين، آخر مجموعة تبقى معه من الفئات التي شكلت في 1991 ما سمي آنذاك بپ"الجبهة الديموقراطية المتحدة من أجل التغيير" التي تحولت في ما بعد الى حزب "اتحاد القوى الديموقراطية"، والتحق بها ولد داداه في هذه المرحلة. وأنهت "الحركة الوطنية الديموقراطية" أول من أمس ما أطلقت عليه "المؤتمر الطارئ الأول" لحزب "اتحاد القوى الديموقراطية" الذي كان ينضوي كله تحت لواء ولد داداه. ودعت الحركة المنشقة، كما يقول البعض، وصاحبة الشرعية كما تقول هي، الى هذا المؤتمر استناداً الى ما تقول انه تأييد 37 من أقسام الحزب البالغ عددها 52. وهذا ما يشكك جناح ولد داداه فيه وان كان الشكل، على الأقل، أو حتى بمقدار من الصدقية. وقد انتخبت الحركة، أو الحزب، قيادة برئاسة السياسي اليساري السابق محمد ولد مولود الذي كان زعيماً لها قبل ان تعلن الأربعاء "التوقف عن العمل السري"! ويعتقد مراقبون موريتانيون ان الصراع على اسم "اتحاد القوى الديموقراطية" بين جناح ولد داداه واليساريين السابقين لن يطول كثيراً. اذ من المتوقع ان تطلق "الحركة الوطنية الديموقراطية" اسماً جديداً على جناحها بعد ان تتدعم مواقعها على الساحة السياسية "الشرعية" وتطمئن الى ان السلطات لن ترفض السماح لها بتشكيل حزب خاص بها. وربما كان اعلان الحركة الاربعاء الماضي انها "توقفت عن ممارسة أي نشاط سياسي سري داخل حزب اتحاد القوى الديموقراطية..." رسالة تطمين موجهة الى وزارة الداخلية. وفي الواقع يمكن القول ان ولد داداه يجد نفسه الآن في محيط مغاير تماماً لما كان يعرف بپ"اتحاد القوى الديموقراطية"، مما يفترض ان يترتب عليه توجه جديد واستراتيجيات جديدة وتعاط جديد مناقض تماماً للتعاطي الذي كان قائماً مع الاوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية. وعاد ولد داداه الى البلاد من منفاه الاختياري قبل وقت قصير من تنظيم أول انتخابات رئاسية متعددة الاحزاب في 1992، ووجد أمامه حزب "اتحاد القوى الديموقراطية" الذي كان آنذاك قوة كبيرة "مزعجة" تتسم بالتطرف وتجمع أقصى اليسار وأقصى اليمين وتضم اليساريين ذوي النزعة الماركسية والاسلاميين والليبراليين المتشبعين بالثقافة الغربية، والأفارقة السود معتدلين ومتطرفين، ومن أبرزهم اعضاء "جبهة تحرير الأفارقة السود في موريتانيا" المتطرفة التي تدعو الى طرد الغالبية العربية من البلاد. كما كان الحزب يضم حركة "الحر" الناطقة باسم "الحراطين" وهم فئة اجتماعية عربية الثقافة والانتماء لكنها سوداء اللون وتعود أصولها البعيدة الى عهود الاسترقاق. ودخل ولد داداه في مفاوضات مع هذه القوى تمخضت عن دعمه مرشحاً مستقلاً في انتخابات الرئاسة وانضمامه في ما بعد الى الحزب زعيماً له. لكن لم يمض وقت طويل حتى انسحب بعض السود وشكلوا ما عرف بحزب "الحرية والعدالة والمساواة"، كما انسحبت شخصيات سياسية كان لها دورها أيام حكم الأخ الأكبر لزعيم الحزب المختار ولد داداه وشكلت حزباً آخر. وجاء دور "الحراطين" و"جبهة تحرير الأفارقة السود في موريتانيا" وشكل هؤلاء حزب "العمل من أجل التغيير". ثم انسحبت "حركة الديموقراطيين المستقلين" ذات النزعة الليبرالية وانضمت الى حزب الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع، ويأتي الآن دور "الحركة الوطنية الديموقراطية" التي هي أكثر الفئات نضجاً وشرعية تاريخية. وقد اتخذت هذه من انضمام مجموعة ناصرية الى الحزب ذريعة للانسحاب ومنازعة ولد داداه على شرعية الحزب. ماذا بقي لولد داداه إذن؟ بقي مؤيدوه الذين عرفوا بالمستقلين... وانضمت اليه مجموعة ناصرية قوية نسبياً ولها مثل "الحركة الوطنية الديموقراطية" مقدار من الشرعية التاريخية والتجربة. وعاد اليه بعض شخصيات نظام أخيه التي كانت انشقت وشكل حزباً خاصاً بها، ومن أبرزها وزير الدفاع السابق محمد ولد باباه. كما انضمت اليه مجموعة منسحبة من حزب السلطة لبعضها مكانة قبلية ومن أبرزها وزير الخارجية السابق شيخنا ولد محمد الأغظف. وهناك بعض أفراد التيار الاسلامي الموزع بين المعارضة والموالاة. حينما عاد ولد داداه الى البلاد كانت الظروف مختلفة تماماً. كان هناك انبهار بالديموقراطية الجديدة وكان كثيرون يعتقدون ان النظام العسكري مضطر للرحيل بضغط من الولاياتالمتحدة وفرنسا. وراهن كثيرون على ولد داداه بديلاً من العسكر، مما أعطاه زخماً قوياً، وجعل منه الزعيم المعارض الأوحد. لكن سوء الحظ جعله يأتي متأخراً قليلاً بعدما انقسمت الساحة بين ممثل الجيش معاوية ولد سيد احمد الطايع الذي كان يطرح العروبة واستعادة الهوية وضمان الاستقرار، وبين جماعة "الجبهة الديموقراطية المتحدة من أجل التغيير" "اتحاد القوى الديموقراطية" لاحقاً التي كانت تهدد بتفجير الأوضاع "تحت أقدام العسكر" وتعادي سياسة التعريب، وتدعو الى فتح ملفات القمع الذي تعرض له السود من 1986 الى 1991. وهي الاحداث التي اخرجها المتطرفون من صراع بين نظام عسكري الى صراع بين "العروبة" و"الزنوجة" أو بين الغالبية العربية والأقلية الافريقية. وفي حين كان الماركسيون السابقون السود يشعلون النار بتحميل الحركات القومية وعرب النظام الحاكم المسؤولية، وجد النظام في الطرح المتطرف من خصومه فرصة لجمع معظم الموريتانيين العرب حوله على اعتبار وجود هجمة غربية لها "طابورها الخامس" في الداخل تستهدف الوجود العربي. ولم يكن أمام ولد داداه بد من اختيار معسكر التطرف وقبول كل الشروط. وخلال الحملة الانتخابية فقد المرشح ولد داداه دعم كثيرين راهنوا عليه بسبب خطبه الملتهبة التي اعتبرها بعضهم إذكاء لنار الحقد العرقي. واستمرت شعبية ولد داداه في التدهور على مدى الاعوام الماضية بسبب العديد من العوامل التي من بينها خطابه السياسي الذي وجد فيه خصومه من أنصار النظام أداة لاتهامه بالانجياز ضد الغالبية العربية ومعاداة العروبة برغم انه عربي أصيل ينتمي الى أسرة عريقة. والآن تغير الوضع تماماً، اذ حلت القوى العربية المحافظة محل المتطرفين من السود وغيرهم، وترك الماركسيون السابقون مقاعدهم للناصريين ولم يبق من السود مع ولد داداه إلا قوى معتدلة تقبل بوضع الأقلية في اطار دولة مواطنوها متساوون أمام القانون. ويعتقد ان ولد داداه سيكون أقرب الآن الى "موريتانيا العميقة" بوجود شخصيات سياسية تقليدية ذات نفوذ قبلي. وهذه النقطة مهمة لأن الاستقطاب في هذا البلد ما زال يتم على اساس العامل القبلي اكثر من أي عامل آخر. كما يرى هذا البعض انه سيكون لوجود الناصريين دور في محو الصورة التي تركتها سنوات الطروحات "المتحاملة على عرب البلاد" كما يقال. وفي الواقع تمكن ولد الطايع ان يجعل من الهجوم على سجل نظامه في حقوق الانسان هجوماً على الوجود العربي وساعده في ذلك تطرف خصومه. وسيتعين على ولد داداه ان يدخل تغييرات شاملة على نهجه الاستراتيجي وأساليبه الدعائية ليتلاءم مع وضعه الجديد. فهل يحقق ب "العروبة" مع عجزت "الزنوجة" عن تحقيقه؟ يرى مراقبو الشأن السياسي الموريتاني انه يتعين انتظار وقت طويل قبل ان يستعيد الرجل الصدقية التي تضررت كثيراً خلال سنوات التطرف خصوصاً ان القوى الجديدة لها هي الأخرى مشاكلها. فالناصريون مجموعة لم تستطع ان تقنع من أصروا على البقاء داخل الحزب الحاكم بمراجعة مواقفهم. كما انها بالنسبة الى الناصريين المستقلين وناصريي المعارضة مسؤولة بدرجات متفاوتة مع غيرها عن تفتيت الحركة الناصرية التي كانت أقوى التيارات السياسية في البلاد، وهي في نظر هؤلاء مسؤولة ايضاً عن التحالف مع النظام العسكري، ومعه في شكله "الديموقراطي" الجديد. ويواجه الناصريون ايضاً حقيقة التناقض الواضح بين معظم طروحاتهم في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وبين ما يمثله الاقتصادي أحمد ولد داداه المتشبع بالقيم الغربية. أما مجموعة الشخصيات السياسية ذات النفوذ القبلي بقيادة شيخنا ولد محمد الأقظف فلها مشاكل هي الأخرى تتمثل في اعتبار كثيرين لها مجموعة خدمت النظام كثيراً وقاطعته لأنه قلل نصيبها في الوظائف أو المصالح الأخرى، أو قوى خصوماً محليين لها. هذا إضافة الى ان نظام الحكم نفسه يعمل على محاصرتها داخل المحيط القبلي بوسائل مختلفة.