جئتُ إلى أوروبا أخيراً لأقضي عطلة لبضعة أسابيع، ولم أكن غبت عنها أكثر من عام واحد، ومع ذلك راعني ما لاحظته عندما بدأت أقرأ بعض الصحف اليومية الأوروبية بانتظام. ما كل هذه الثقة بقدرة الإنسان على السيطرة على مصيره، والتحكم في مستقبله؟، "أإلى هذا الحد إذن بلغ غرور الإنسان بنفسه؟" هكذا قلت لنفسي. التنبؤ بحالة الجو قديم ومعروف، وإن كان في البداية يتعلق باليوم التالي فقط، فأصبح الآن تنبؤاً بحالة الجو بعد أسبوع، ثم بعد شهر بل وطوال الصيف بأكمله. في كل يوم تجد في صحفهم ونشرات أخبارهم تعبيراً عن الاستغراب الشديد من أن شيئا ما قد فاتهم الاحتياط له، ولم يعملوا حسابه، أو لم يتنبأوا به قبل وقوعه. يندهشون أشد الدهشة من أنه لا زالت هناك جراثيم وميكروبات لم يكشفوا كنهها، أو حوادث في الطريق لم يعرفوا الأسباب المانعة لوقوعها، أو سقوط طائرة لا يعرفون سبب سقوطها. وبالأمس عبرّوا عن استغرابهم الشديد من أن امرأة وظيفتها الإشراف على بعض الأطفال هزت أحد الأطفال هزاً عنيفاً فمات بعد بضعة أيام، واعتبروا أن هذا الحادث يدل على منتهى الإهمال وعدم الاحتياط في اختيار النساء الموكل إليهن الإشراف على الأطفال، وكأن من الممكن حقاً أن تتخذ الاحتياطات كافة لمنع امرأة من أن تهز طفلاً هزاً عنيفاً! وقبل أيام عبّر الأطباء الإنكليز في مؤتمرهم السنوي عن مشكلة تقلقهم أشد القلق، إذ أنهم لا زالوا لا يعرفون حتى الآن متى يحسن بهم أن يتركوا المريض من دون علاج وإلى أى مدى يجب أن يستمروا في إعطائه العلاج ليستمر في الحياة؟، ذلك أن مما يضايقهم أنهم حتى الآن لا يستطيعون أن يحددوا بكل ثقة ما إذا كان المريض بمرض خطير سوف يعمّر يوماً أو يومين، أو سوف يطول به العمر لسنوات، ما يخلق لهم مشاكل مع أهل المريض قد تعرضهم للمساءلة القانونية! قلتُ لنفسي: هذه البلاد تفترض افتراضاً لا يقبل المناقشة أن الإنسان هو صاحب القرار في كل شيء، وقادر على السيطرة على مصيره تمام السيطرة، وأنه في الأساس حرّ والمطلوب هو توسيع دائرة الحرية أكثر فأكثر. ليس هناك في نظرهم شيء اسمه "قضاء وقدر" يتعين عليهم قبوله بطيب خاطر، وليس هناك شيء خارج عن دائرة العقل الإنساني لا يمكن فهمه ومن ثم لا يمكن السيطرة عليه. ولكنني جئت من بلاد على النقيض من ذلك تماماً، تعشق فكرة الجبر عشقاً، وتنفر نفوراً شديداً من حرية الاختيار، وأهلها مغرمون أشد الغرام بإلقاء المسؤولية الكاملة على القضاء والقدر في أكبر الأمور وأبسطها، ويكرهون أي إشارة قد تعني أنه من الممكن أن يكون لإرادتهم أي تأثير في مستقبلهم، أنهم لا يريدون القيام بأي عمل من الأعمال قد ينطوي على أي محاولة للتنبؤ، حتى ولو تعلق بالتنبؤ بما إذا كان اليوم التالي هو الاثنين أو الثلثاء، ومن ثم لا يريدون القيام بأي جهد للتأثير في المستقبل حتى ولو تعلق بتلك الأمور التي أمرنا الله تعالى فيها بأن نُعدّ لهم ما استطعنا من قوة. أصارح القارئ بأنني بقدر استغرابي من الدرجة التي وصلنا إليها في النفور من حرية الاختيار والاستعداد للمستقبل، استغرب بشدة ما وصل إليه الأوروبيون والاميركيون من غرور بقدرتهم على السيطرة على هذا المستقبل. إن الإنسان بكل تأكيد ليس بالتفاهة التي نظنها به في بلادنا، لكنه بكل تأكيد أيضاً ليس "ظل الله على الأرض" كما يتصور الأوروبيون والأميركيون، وقد دفعنا نحن ثمنا باهظاً لمبالغتنا في اعتقادنا ب "الجبر" ولكنهم هم أيضا بدأوا، في ما يبدو لي، يدفعون ثمناً باهظاً لمبالغتهم في اعتقادهم في "حرية الاختيار". * كاتب وجامعي مصري.