من ضروب المجازفة، بل المقامرة، محاولة الاجابة عما إذا كان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو، سيوافق قريباً على المبادرة الأميركية لتحريك المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية المتوقفة من خلال انسحاب جزئي ثان محدود ب 13.1 في المئة من مساحة الضفة الغربية، خصوصاً ان سجل نتانياهو في الكذب بات طويلاً ومعروفاً. ويبدو أن حتى الأميركيين ليسوا واثقين من أي موعد محدد يمكن أن يتحرك فيه نتانياهو لتنفيذ انسحاب آخر من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهو كرر أول من أمس في الكنيست ان الفجوات بين الموقفين الأميركي والاسرائيلي تقلصت وأن السؤال الآن ليس عن المرحلة الثانية أو الثالثة من الانسحاب "بل عن مدى وفاء السلطة الفلسطينية بتعهداتها ولن نكتفي بالتزامات خطية، بل نريد تنفيذاً عملياً في اطار جدول زمني محدد". وفي ظل تلك الشروط السابقة يستطيع نتانياهو مواصلة المماطلة الى أجل طويل غير مسمى، خصوصاً في ظل تبجحه في المناسبة نفسها بأنه نجح في خفض سقف توقعات الفلسطينيين بالنسبة الى مساحات الأراضي التي يمكن أن يستردوها. وإذا كان الغموض يلف نيات نتانياهو في ما يتصل باحتمالات تنفيذ الالتزامات الاسرائيلية بمقتضى اتفاقات أوسلو التي قضى عليها بأفعاله ولم يبق إلا على اسمها ليستغله ذريعة يقيس بها "مخالفات" الفلسطينيين لتلك الاتفاقات، فإن الهدف النهائي الذي يسعى نتانياهو الى تحقيقه لا يشوبه أي لبس أو غموض. لقد أشار زعيم حزب العمل الاسرائيلي ايهود باراك أول من أمس في الكنيست في سياق حملته على سياسات نتانياهو التي قال انها جرت اسرائيل "الى عزلة سياسية لم يسبق لها مثيل" والى "الهاوية وانعدام الثقة"، الى أن نتانياهو "يعمل بكلتا يديه لاقامة دولة فلسطينية فقيرة ومعادية ستحظى بدعم العالم أجمع". وهنا تكمن الخطورة: في دولة فقيرة مقطعة الأوصال ستكون عبارة عن مجموعة كانتونات متباعدة تحكمها أطواق من المستوطنات والمستوطنين والخرسانة المسلحة وجنود الاحتلال ودباباتهم والحواجز التي يقيمونها على الطرق. دولة فقيرة تتحكم اسرائيل في سد منافذها ليس عليها وحسب وانما على الدولتين العربيتين المجاورتين لقطاع غزة والضفة، أي مصر والأردن. هذا هو الهدف الذي يسعى نتانياهو الى تحقيقه في هذه المرحلة، ولا يهمه في نهاية الأمر، عملياً، أن تطلق السلطة الوطنية الفلسطينية على اسم ذلك الواقع الممسوخ اسم دولة. ذلك أن القسم الأكبر من الأراضي المحتلة لن يعاد الى الفلسطينيين، والعمل على توسيع المستوطنات سيستمر وعملية تهويد القدس سيجري تسريعها. لكن هذا كله في الواقع ليس سوى وصفة لحرب حتمية بين الفلسطينيين والاسرائيليين. ولا يمكن تجنب تلك الحرب إلا بالعودة الى أسس عملية السلام ومؤتمر مدريد: الانسحاب من الأراضي المحتلة مقابل السلام والأمن لجميع شعوب المنطقة وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وعدم الإخلال بوضع القدس التي احتلت عام 1967 وتطبيق القرار 242 عليها كتطبيقه على كل الأراضي العربية التي احتلت في ذلك العام. إذا نجح نتانياهو في تحقيق هدفه فإن هذا يعني استمرار فرض الاحتلال على الشعب الفلسطيني في صورة أسوأ من تلك التي كانت سائدة قبل اتفاقات أوسلو. ذلك ان تجزئة الأراضي الفلسطينية وشرذمة السكان في كانتونات معزول بعضها عن بعض يقطع الاتصال الانساني ويبدد الوحدة الجغرافية ويقلص فرص العمل ويقضي على الآمال بحياة أفضل ذات آفاق أرحب يمكن الطموح الى بلوغها. والتحدي الذي يواجه العرب جميعاً هو حرمان نتانياهو من تحقيق هدفه. ولكن كيف، ومتى؟ ان الدولة الفقيرة المعادية التي قال باراك ان نتانياهو يعمل بكلتا يديه لايصال الفلسطينيين اليها، ستكون بمثابة كارثة لكلا الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي ولمستقبل الشرق الأوسط. وهذا التقدير الذي يقرب من اليقين يجب أن يكون حافز العرب وكل المحبين للسلام والحياة الكريمة للعمل على تجنب تلك الكارثة.