ما أعرفه عن الكاتب صالح كركر صاحب مقالة "دعوة الحركة الإسلامية إلى مراجعة رؤيتها السياسية"، "الحياة" 11/6/1998 هو أنه من التيار المتشدد في الحركة الإسلامية التونسية التي كانت تصنف على أنها الأكثر اعتدالاً بين الحركات في الواقع العربي. ولعل ذلك هو سر هذه القفزة المبالغة في اعتدالها في طروحات السيد كركر، حيث لجأ إلى خلع ثوبه السياسي تماماً، وارتدى ثوباً آخر. يضع الكاتب في مقاله المذكور جملة من الحقائق والفرضيات والاستنتاجات التي تحتاج إلى فحص ونقاش كبيرين، ولعل مقدمة هذا الفحص والنقاش تبدأ من سؤال: من هي الحركة الإسلامي التي يوجه إليها الخطاب؟ وهل يوجد في واقع العمل الإسلامي حركة واحدة بحيث تقرر قيادتها التحول من استراتيجية إلى أخرى؟ هذه الحقيقة وحدها تكشف طوباوية الدعوة التي يوجهها كركر بضرورة مراجعة الحركة الإسلامية لرؤيتها السياسية، ذلك أن ترك فريق من الحركة الإسلامية هنا أو هناك للمسار السياسي والانتقال إلى مسار آخر لن يعني أن المسار الأول سيبقى فارغاً من أصحاب اللون الإسلامي. فاشتغال النورسيين في تركيا بالجانب الدعوي والتربوي وحتى الفكري لم يترك ساحة العمل السياسي الإسلامي فارغة، فقد عبأها نجم الدين أربكان. ووجود الجمعيات المشتغلة بالهم الفكري والثقافي والدعوي في المغرب لم يمنع الآخرين من الاشتغال بالعمل السياسي. نأتي هنا إلى الفرضة الأولى التي بدأ بها كركر حديثه، وهي عجز الحركة الإسلامية عن تقديم برامج فيها من العمق والتشريح والتفصيل، واكتفاؤها برفع شعارات عامة. والحقيقة ان العجز هنا مفترض ليس إلا، فلدى الحركة الإسلامية من النخب المثقفة والقادرة على صياغة أفضل البرامج الكثير الكثير، وقد كتب في هذا الجانب غير مرة، بيد أن الواقع يقول إن المسافة بين الحركة وتسلّم الحكم ما تزال كبيرة، أما في حالة العمل من خلال أحزاب معترف بها، فقدم الإسلاميون برامج معقولة كما في اليمن والأردن. من هنا فإن القول بعجز الحركة الإسلامية على هذا التصعيد لا يحمل الكثير من الدقة، فهي في أسوأ حالاتها ستكون ذات مسار أكثر نزاهة في إدارة الوضع الداخلي، بينما كان غياب هذا المصطلح وشيوع الفساد على رأس المصائب، من دون أن نهمل العامل الخارجي. ثم من قال إن برنامج الحركة الإسلامية يقوم على صناعة عمر بن الخطاب وإلا فلا؟ تبدأ المشكلة عند كركر والتي تستدعي المراجعة لدى الحركة الإسلامية من الانسداد في افق العمل السياسي، ما يستدعي منها أن تتخلى عن هذا الجانب في عملها تماماً "لتتفرغ علاوة على العمل الدعوي والتربوي إلى العمل الفكري والعلمي. أي أن تقوم بما كان يقوم به العلماء أيام ازدهار الدولة الإسلامية... لقد أدرك هؤلاء أهمية ذلك الدور، فتفرغوا له وتجنبوا السياسة". في مناقشة هذا الطرح هناك أكثر من نقطة يمكن أن تقال: أولاً، ماذا لو امتد الانسداد السياسي ليطاول الجانب الفكري والدعوي. هل يترك هذا الجانب أيضاً لتصل الأمور إلى حد المطالبة بالعودة إلى زوايا الدروشة لإرضاء الحاكم؟! ومن قال إن السلطة، أية سلطة، ستقبل بالامتداد الدعوي والتربوي والفكري والعلمي ولن تعتبره جزءاً من سحب البساط من تحت أقدامها وصولاً إلى محطة السياسة؟ ثم ماذا سيفعل هذا المسار عندما يصبح عكسه، أي عمل الدولة على التلاعب باخلاقيات المجتمع وأفكاره من خلال الاعلام والقوانين، كجزء من أدائها المضاد لعمل العلماء؟ ثانياً، من قال إن العلماء في التاريخ الإسلامي لم يشتغلوا في السياسة؟ ألم يكونوا جزءاً من رقابة المجتمع على الحاكم، بل ان بعضهم تطرف وشارك في مشاريع الخروج على الحكام؟ ثم هل ترك الحكام العلماء لشأنهم الفكري أم أرادوا ترويضهم وادخالهم في بيت الطاعة؟ ألم يجلد أبو حتيفة ليتولى القضاء، ومات في سجن الخليفة المنصور تحت ذريعة مناصرة آل البيت؟! ثالثاً، إذا كانت خلاصة مشروع كركر الجديد تقوم على أن الدولة للحاكم، والدين للحركة الإسلامية وللعلماء وللمجتمع بالطبع، فإن تلك القسمة لن تكون مقبولة من طرف الحاكم الذي يريد احتكار كل شيء. في نهاية اطروحته يذهب كركر إلى مشارف القول إن الدولة في التاريخ الإسلامي كانت في الواقع علمانية بفصلها للدين عن الدولة، وهو قول يحتاج إلى تدقيق وتمحيص، ذلك ان مسألة المرجعية لا يمكن تجاهلها هنا... ولعل ذلك يذكر بآخر اطروحات الشيخ يوسف القرضاوي في هذا المجال والتي تطالب بشيء قريب مما كان موجوداً في التاريخ الإسلامي دولة مدنية بمرجعية إسلامية، أي دولة يكون المجتمع المدني فيها قوياً، كما كان شأنه في التاريخ الإسلامي وعكسه الآن حيث مركزية الدولة وعنفها الموجه ضد المجتمع. اطروحة القرضاوي هنا تبدو أكثر عقلانية بكثير من اطروحة كركر، خصوصاً إذا اضفنا لها شق المطالبة بقيام الحركة الإسلامية أو جزء منها بدور العلماء الذين يهتمون بالأعمال الدعوية والفكرية والتربوية من دون أن يتجاهلوا انتقاد الانحرافات الموجودة في الواقع السياسي، وهم بذلك يتحولون إلى اعلام يلتف الناس من حولهم، كما كان شأن ابن تيمية والعز بن عبدالسلام... الخ، أما إذا أنكر الحاكم المرجعية الإسلامية، فإن الاصل هو ان يتصدى العلماء لذلك من خلال عملهم الفكري والدعوي، ذلك الذي لن يكون واقعياً من دون ذلك. هذا الدور هو وحده الذي يبقي للحركة الإسلامية وجوداً في الواقع، ولا يدعها فريسة سهلة لسنة الاستبدال القرآنية "وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم". * كاتب أردني.