من الأمور المهمة والجيدة بالطبع، والتي تستحق الاشادة والشكر أن تهتم "الحياة" بتقديم الرؤى النقدية للخطاب الفكري والسياسي للحركة الاسلامية المعاصرة، وهذا في حد ذاته دليل إلى إدراك أهمية هذه الحركة وأثرها الكبير في الواقع السياسي العربي المعاصر. وكذلك فإن صالح كركر قدم مشكوراً رؤاه الصادقة حول تلك القضية بهدف - هو نبيل في ذاته - الخروج من حال الإنسداد في افق العمل السياسي امام تلك الحركة على حد تعبيره، نشرت المقالة في عدد الخميس 11 حزيران/ يونيو الجاري. ومع كل النيات الطيبة، وانطلاقاً من التقدير والاحترام للكاتب التونسي، وتواصلاً مع محاولة حل إشكاليات الحركة الإسلامية المعاصرة، فإنني أُلفتُ الى أن الكاتب الذي وضع يده على الكثير من نواحي وأسباب القصور في الاداء السياسي للحركة الاسلامية المعاصرة لم يصل الى التحديد المنهجي الصحيح لهذا القصور ولا سببه الرئيسي من ناحية، ووصل الى نتيجة هي عكس المقصود تماماً، وتؤدي الى إشكاليات أكبر. ولو سايرنا الكاتب صالح كركر وسلّمنا بجدوى مطلبه من أن تكف الحركة عن صفتها السياسية وتتخلى عنها، لكانت النتيجة المباشرة لذلك ظهور حركات اخرى بمسميات جديدة "بعيداً عن الاخوان وغيرها" تدّعي تلك الصفة، لأن من المستحيل إقناع الشباب الجديد بفصل السياسة عن الاسلام من ناحية. ومن غير العملي والمنطقي أن تتم مصادرة تراكمات فكرية ومركبة تمت على مدى عشرات السنين إلا بتراكمات مثلها عبر عشرات السنين الاخرى وإلا كانت النتيجة فتحاً لباب المجهول وربما المزيد من العنف والتطرف. وإذا كانت الحركة كما يعترف صالح كركر هي امتداد للأفغاني، فهي نشأت شكلاً ومضموناً في حاضنة السياسية، أما ما أحدثته من الازدواجية والفرقة بين الشعوب الاسلامية - وهذا صحيح - فمرجعه من وجهة نظرنا ليس ممارسة الصفة السياسية، ولكن محاولة الإدعاء بأنها حركة سياسية اجتماعية فكرية عقدية في الوقت نفسه وهذا خلط للأوراق لا تحتمله المرحلة. والصحيح أنه كان على الحركة أن تكتفي بصفتها السياسية - أي عكس ما أراده صالح كركر تماماً - شريطة ان تؤكد وتمارس وتؤمن بأنها مجرد اجتهاد سياسي قابل للتغيير والتطور ذي جذر ثقافي وحضاري إسلامي، وانها مجرد خميرة للنهضة وقاطرة للمواجهة، مواجهة التحديات المثارة، وانها في أطروحتها السياسية تلك لا تمتلك الصواب وحدها، ولا خطابها هو الأول والأخير، وانه على قدر تجدد التحديات وتغيرها تتجدد الاطروحة ويتجدد الخطاب "البرنامج" وهذا لا يخل بالجذر الثابت لها. وبديهي أن التركيز على الصفة السياسية يقتضي ايضاً الإقلاع تماماً عن العنف شكلاً ومضموناً والتركيز على النضال السياسي، باعتبار ان العنف الوحيد المشروع هو الكفاح المسلح ضد العدو الخارجي، وبالتحديد ضد الشكل الاستعماري منه إسرائيل مثلاً. اما النضال السياسي فهو موجه لتحسين أجواء الحرية الداخلية ومحاربة الفساد ومحاولة ايقاظ الشعوب ووقف التدهور... إلخ. وفي هذا الاطار، فإن التركيز على الصفة السياسية لحركة نشأت في حضن السياسة اصلاً، لا يعني أننا نغفل الجوانب الاجتماعية. ولكن هذه ليس مجالها الحركات السياسية، فالتغيير والإصلاح الاجتماعي له رجاله، وهناك جمعيات وحركات تخصصت في هذا المجال وحده، الجمعية الشرعية في مصر مثلاً. أما مسألة الإصلاح التعاقدي فمكانها الطبيعي مراكز الأبحاث العلمية والجامعات ويقوم بها علماء الإسلام فقط وليس مكانها الحركات السياسية والاجتماعية وإلا تحولت المسألة الى فوضى وفتنة. وإذا كان صالح كركر يعتبر ان تبني الحركة لفكرة التنظيم يعتبر تطويراً فكرياً ايجابياً لتجربة الافغاني الذي أغفل فكرة التنظيم، فإننا نلفت نظر الكاتب الى أن فكرة التنظيم يحوطها الشيء الكثير من الغموض واحياناً السلبية، فإذا كان التنظيم بديلاً عن الامة، فهو تكفير عملي واستئثار بلا مبرر، وهو حصر للفكرة والعمل في إطار "كادر" محدد. وهو يتحول مع الوقت الى ما يشبه القبيلة قبيلة الاخوان المسلمين مثلاً ويتحول غالباً الى سرطان في جسم الأمة. والمفروض ان يكون التنظيم قاطرة لجر الامة كلها، وخميرة للنهضة في جسد الأمة، والا يكون في اي حال من الاحوال بديلاً عن الامة، مع ادراك ان التغيير مسؤولية الامة كلها وليس هذا التنظيم او ذاك. على أن الخطأ المنهجي الرئيسي الذي تقع فيه الكتابات النقدية للحركة الاسلامية عموماً، هو إغفال بعدٍ نوعي وجديد لم تعرفه الامة الاسلامية من قبل، وهو حالة الهزيمة التقنية والحضارية. والأمر هنا لا يتعلق بالنيات. فحتى لو وصلت حركة اسلامية ما الى السلطة من دون ادراك ظرف الهزيمة الحضارية، فلن تفعل شيئاً افضل مما تفعله الحكومات العلمانية. ومعنى الهزيمة الحضارية ان الإرادة السياسية لنا ليست مستقلة تماماً. فأياً كان نوع نظام الحكم، فإن مجتمعاتنا خاضعة لنوع من الهيمنة العالمية اقتصاداً وسياسة وربما عسكرياً عند الضرورة، يجب الاعتراف به ومواجهته بدلاً من إغفاله والقفز عليه. وبالتالي فإن استدعاء نماذج هي في ذاتها صحيحة وجميلة ورائعة لن يغني شيئاً، لأنها نماذج كانت صالحة لزمن كانت السيادة الحضارية في العالم متعددة أو على الاقل لم تكن الهيمنة الدولية بهذه الدرجة من الشراسة. وإذا قلنا إن المنحنى الحضاري لأمتنا، صعد ثم ثبت ثم حدث انقلاب فيه فنزل الى اسفل، واعترفنا بذلك، لكان المطلوب منا اولاً تقليل عجلة النزول، ثم محاولة ايقاف النزول ثم محاولة عمل إنقلاب في المنحنى الحضاري ناحية الصعود ثم الصعود من جديد. وهذا بالطبع يحتاج الى رؤى وفقه مغاير تماماً لما استقر من فقه ورؤى كانت ملائمة لعصر السيادة الحضارية الاسلامية، يسمى من وجهة نظرنا "فقة الإقلاع" الذي يراعي هذه الحالة ويقدم الحلول الملائمة لها شكلاً ومضموناً. * كاتب مصري