المتابع للتطورات السياسية في منطقة الخليج، لا بد أن يلحظ مجموعة من الأحداث التي تشير الى تغيرات في خريطة العلاقات السياسية، والتوازن الاستراتيجي، والتي انعكست في عدد من الزيارات المهمة، التي شهدتها المنطقة، خلال العام 1998، ففي شباط فبراير 1998 قام رافسنجاني، الرئيس الايراني السابق رئيس هيئة تشخيص مصلحة النظام، بزيارة الى السعودية، على رأس وفد رفيع المستوى. وشملت المحادثات بين الجانبين، التي امتدت الى اكثر من اسبوع، دائرة عريضة من المواضيع، اتفق خلالها على انشاء لجنة مشتركة، على المستوى الوزاري، تعقد اجتماعاتها دورياً، بالتناوب بين البلدين، بقصد تطوير العلاقات الثنائية. وفي شهر نيسان ابريل، قام رئيس مجلس الشورى الايراني، علي أكبر ناطق نوري، بزيارة كل من الكويت وسلطنة عمان. وفي الشهر نفسه، قام عبدالله نوري، وزير الداخلية الايراني، بزيارة للسعودية، نقل خلالها دعوة الى كل من الملك فهد والأمير سلطان لزيارة ايران. وفي أيار مايو، قام كمال خرازي، وزير الخارجية الايراني، بزيارة لدولة الامارات، للبحث في قضية الجزر التي تحتلها ايران، كما قام الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي، بزيارة الى طهران. وفي الشهر نفسه، قام آل غور، نائب الرئيس الاميركي بزيارة الى السعودية. وفي شهر حزيران يونيو زار توماس بيكرينغ، وكيل وزارة الخارجية الاميركية للشؤون السياسية، كلاً من الكويت وعُمان والامارات. وفي الشهر نفسه زار وزير الداخلية الكويتيايران، وتم توقيع اتفاق للتعاون الأمني بين البلدين في شأن خفر السواحل والتنسيق لمنع تهريب المخدرات. والخيط الدقيق، الذي يجمع بين عديد من هذه الانشطة، يتصل بدور ايران الاقليمي، وعلاقتها بدول الخليج العربية، والتي شهدت تحسناً واضحاً، مع كل دول مجلس التعاون عموماً، ومع المملكة العربية السعودية بصفة متميزة، خصوصاً منذ فوز سيد محمد خاتمي برئاسة الجمهورية في العام 1997. فمع مطلع العام 1997، وقبل انتخابات الرئاسة الايرانية، أفصحت ايران عن سياسة جديدة تجاه دول الخليج. وفي زيارته للسعودية في آذار مارس 1997، أشار علي أكبر ولايتي، وزير الخارجية الايراني السابق، إلى أن "فصلاً جديدا في علاقات حُسن الجوار والود مع المملكة العربية السعودية قد بدأ"، مؤكداً أن ايران لا تسعى الى الصراع والهيمنة، داعياً الى اقامة "هيكل أمني خليجي" يقوم على أساس التعاون بين ايران ودول الخليج العربية. وفي الشهر نفسه التقى الأمير عبدالله، ولي عهد السعودية، هاشمي رافسنجاني، على هامش القمة الاسلامية الاستثنائية في إسلام أباد، وأعلن رفسنجاني بعدها، ان التفاهم مع ولي عهد السعودية كان كاملاً. وفي تشرين الثاني نوفمبر من العام نفسه، بعد تولي خاتمي الرئاسة، قام كمال خرازي بزيارة لدول الخليج، أعاد فيها طرح فكرة اقامة منظومة أمنية مشتركة، تضم ايران ودول الخليج. كما دعا علي شمخاني، وزير الدفاع الايراني، الى اقامة هيكل أمني خليجي، والى تبادل وجهات النظر في شأن القضايا العسكرية، والدفاعية والأمنية بين دول المنطقة، مؤكداً أن الاستراتيجية الايرانية تضع السعودية "على رأس الدول الخليجية التي تسعى الجمهورية الاسلامية الى أن توثق علاقتها معها وتصل بها الى مرحلة من التعاون الشامل". وانعكس هذا التقارب بين البلدين في عدد من الخطوات. ففي حزيران يونيو 1997، وقّعت "مؤسسة المعاقين والمستضعفين" الايرانية وشركة "فائزين" السعودية اتفاقات عدة للتعاون الاقتصادي. وفي ايلول سبتمبر من العام نفسه، استأنفت الخطوط الجوية السعودية والخطوط الجوية الايرانية رحلاتهما المنتظمة بين طهرانوجدة، وكانت هذه هي الرحلة الأولى منذ قيام الثورة الايرانية في العام 1979، باستثناء الطائرات الموسمية، التي كانت تقوم بنقل الحجاج والمعتمرين الايرانيين. ومن ناحية اخرى، شارك ولي العهد السعودي في مؤتمر القمة الاسلامية في طهران، وأعربت السعودية عن استعدادها للتوسط بين ايران واميركا للتقريب بين وجهات النظر. ثم جاء تطور حاسم آخر في العلاقة بين السعودية وايران، بتوقيع اتفاق التعاون في أيار مايو أثناء زيارة الأمير سعود الفيصل لطهران. وتضمن الاتفاق تشجيع التعاون بين البلدين في المجالات الاقتصادية والعلمية، والفنية، والثقافية. وفي حزيران يونيو وقعت الدولتان اتفاقاً لتبادل الأخبار، وتنظيم التعاون بين الوكالة الايرانية للأنباء والوكالة السعودية للأنباء، ولم يتردد ممثلو الدولتين في تأكيد وجود "ارادة سياسية واضحة وثابتة" من أجل تعزيز العلاقات الثنائية. وأكد الأمير سعود الفيصل "ان الارادة السياسية متوافرة لدى قيادتي البلدين لاقامة علاقات وثيقة على قاعدة الثقة المتبادلة والمتوازية والحرص على أمن البلدين واستقرارهما"، كما أكدت الدولتان المردود الايجابي لهذه العلاقات على مستوى الاستقرار الاقليمي. يوضح هذا العرض للتحركات السياسية الديبلوماسية الايرانية ان طهران تطبق سياسة جديدة إزاء دول الخليج، وخصوصاً السعودية، وتسعى الى كسب ودها، والى طرح مفاهيم للدفاع عن الخليج تتضمن التعاون بين الدول الخليجية وايران، مستفيدة في ذلك من عدد من التطورات التي حدثت منذ حرب تحرير الكويت في 1991. فقد برز شعور بالقلق في اوساط النخبة الثقافية، ولدى بعض الدوائر السياسية الخليجية، حول مستقبل الوجود العسكري الاميركي في المنطقة، الذي بدا كأنه بلا نهاية. كما برز شعور "بالتململ" من الثمن الاقتصادي والسياسي الذي على هذه الدول ان تفي به. من ناحية اخرى، برز بعض الاصوات الاميركية الذي تحفظ عن استمرار وجود قوات اميركية كبيرة في منطقة الخليج. وهو ما انعكس في القرار الاميركي في شهر آيار مايو الماضي بتقليص هذه القوات من 36 ألفاً الى نصف هذا العدد، والى ما تردد أيضاً في شأن إدراك الادارة الاميركية لفشل، أو على الأقل عدم فاعلية، سياسة "الاحتواء المزدوج" وعدم تحقيقها الاهداف المرجوة منها. لقد مثل تبني سياسة الاحتواء المزدوج تحولاً مهماً في السياسة الاميركية تجاه منطقة الخليج، فمن قبل كانت هذه السياسة تقوم على إحداث التوازن، أو التنافس، بين العراقوايران. وفي عهد الشاه، اعتمدت واشنطن على ايران كشرطي للمنطقة، بهدف كبح جماح أي طموحات عراقية. وفي مرحلة لاحقة، مالت السياسة الاميركية الى صف بغداد لوقف تداعيات الثورة الايرانية على دول الخليج الأخرى. أما سياسة "الاحتواء المزدوج" فقامت على افتراض عداء النظامين العراقيوالايراني، ليس فقط لمصالح الولاياتالمتحدة ولكن ايضاً لمصالح دول الخليج العربية. ومن ثم، تمثلت أهداف هذه السياسة، من وجهة النظر الاميركية، في تقليل مستوى التهديد الذي تمثله الدولتان، من خلال احتوائهما سياسياً واقتصادياً، وعزلهما، كلما أمكن ذلك، وبيع السلاح الأميركي لدول الخليج العربية باسم مواجهة هذا التهديد، فضلاً عن الوجود العسكري المباشر للقوات الاميركية في المنطقة. ويضيف بعض المحللين هدفاً رابعاً، هو رغبة الولاياتالمتحدة في الانتهاء من عملية التسوية السلمية للصراع العربي - الاسرائيلي والمشكلة الفلسطينية، في غيبة هاتين الدولتين المعارضتين لها. وكانت النتيجة العملية لتطبيق هذه السياسة اختلال التوازن في المنطقة لصالح ايران: فبينما خضع العراق لنظام صارم للعقوبات الاقتصادية، لم تتمكن واشنطن من احتواء ايران سياسياً، أو اقتصادياً، أو عسكرياً. ومن الناحية السياسية نجحت ايران في تحسين صورتها أمام الدول العربية الاسلامية، وهو ما اتضح في القمة الاسلامية في طهران، وفي تنمية العلاقات الايرانية - الخليجية. ومن الناحية الاقتصادية اضطرت الولاياتالمتحدة الى التراجع عن تطبيق "قانون داماتو"، في اول مواجهة جادة لها مع دول الاتحاد الاوروبي. ومن الناحية العسكرية، استمرت ايران في تطوير صناعاتها الحربية من خلال علاقتها مع روسيا، فاستطاعت الحصول على عدد من الغواصات، وتم الاتفاق على بناء عدد من المفاعلات النووية بغرض الاستخدامات السلمية. كما ان ايران عاكفة على تطوير صناعة الصاروخ "شهاب 3" الذي يبلغ مداه 1300 كم، وهذا هو المدى الكافي لكي يصل الصاروخ الى كل من اسرائيل وتركيا. هذه التطورات تشير الى تحول استراتيجي مهم، في دور ايران في منطقة الخليج، والى تغيرات في خريطة التحالفات السياسية في المنطقة، خصوصا اذا ادخلنا في الاعتبار أثر التفجيرات النووية في شبه القارة الهندية على منطقة الخليج، وفي علاقة كل من الهند وباكستان بدول الخليج العربية. ولكن هذه الصورة لم تكتمل بعد، فإيران تسعى الى ترتيب علاقاتها مع الدول الخليجية وتطويرها في غيبة العراق، وليس من الواضح بعد، الى أي مدى ستتطور تلك العلاقات، مع استمرار مشكلة جزر دولة الامارات. ومع اختلاف المرجعية السياسية لايران عن دول مجلس التعاون، ومع التفاوت البينّ في عناصر القوة الشاملة للدولة. كما انه ليس من الواضح، الى أي مدى ستترك الولاياتالمتحدة تلك التغيرات في التبلور، والى اي مدى ستقبل مشاركة ايرانية أكبر في أمور الخليج في ضوء الوجود العسكري المباشر لها في المنطقة. وهذا موضوع يحتاج الى تناول مستقل. * عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.