في كانون الثاني يناير 1998، أدلى الرئيس الإيراني محمد خاتمي، وقبل أقل من ستة أشهر على توليه السلطة، بحديث لمحطة الأخبار التلفزيونية CNN عن علاقات بلاده مع الولاياتالمتحدة، جاء فيه أنه "لا ينبغي أن يوجد شيء يمنع الحوار والتفاهم بين الأمتين، خصوصاً بين الباحثين والمفكرين. ومن الآن، فإنني أوصي بتبادل: الاساتذة، والكُتّاب، والباحثين، والفنانين، والصحافيين، والسياح". وحرص خاتمي على التمييز بين الانفتاح الثقافي والعلمي من ناحية، وبين العلاقات السياسية من ناحية أخرى، مشيراً الى أنه: "لا توجد عداوة بين الأمتين، ولكن الحوار بين الحضارات والشعوب يختلف عن العلاقات السياسية. وبالنسبة الى تلك الأخيرة، فإننا ينبغي أن نبحث في العناصر التي أدت إلى قطع العلاقات". وبعد هذه المقابلة التلفزيونية بخمسة أشهر، وتحديداً في 17 حزيران يونيو، جاء الرد الاميركي في خطاب لوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، أمام "جمعية آسيا". في مدينة نيويورك، أفصحت فيه عن رغبة الولاياتالمتحدة في بدء حوار مع إيران، وعن الرغبة في الوصول إلى "خارطة طرق" تؤدي الى إقامة علاقات طبيعية بين البلدين. مشيرة الى "اننا مستعدون لاستكشاف طرق أخرى لبناء الثقة المتبادلة، وتجنب سوء الفهم"، وأن "الفجوة بيننا لا زالت كبيرة، ولكن الوقت حان لاختبار إمكانات سد هذه الفجوة". وبعد أقل من 24 ساعة من القاء أولبرايت لخطابها، دعم الرئيس الأميركي كلينتون موقف وزيرة خارجيته، بإعلان أن واشنطن على استعداد لاستكشاف المزيد من السبل لبناء الثقة وتجنب سوء الفهم، وأن ما تتمناه واشنطن هو مصالحة حقيقية مع طهران على أساس المعاملة بالمثل، مؤكداً أن إيران تتغير بطريقة إيجابية، وأن اميركا تدعم هذا التغير. وعلق وزير الخارجية الإيراني كمال خرازي على ذلك بأن الكلمات وحدها لا تكفي، ولا بد من أن تعقبها أفعال. أما العناصر الأكثر تشدداً في إيران، فقد طالبت اميركا بالاعتذار عن نصف قرن من الإساءة لبلدهم، ابتداء من قيام وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية بتنظيم الانقلاب الذي أودى بنظام مصدق الوطني، وعودة الشاه الى الحكم في مطلع الخمسينات. وفي احتفال إيراني لمناسبة الذكرى العاشرة لإسقاط البحرية الاميركية لطائرة ركاب إيرانية، في تموز يوليو 1998، طالب بعض المتحدثين أميركا بتقديم اعتذار رسمي عن الحادث لإيران ولأسر الضحايا. وتشير هذه الأحداث الى تطور في السياسة الاميركية إزاء طهران. إذ أدركت واشنطن أن سياسة الاحتواء المزدوج التي دشنتها العام 1992 لم تؤت ثمارها، ولم تصل واشنطن بعد الى صياغة متكاملة لسياسة بديلة. ويبدو أن الإدارة الاميركية أدركت عموماً حدود فاعلية سياسة العقوبات الاقتصادية. وفي كانون الثاني يناير 1998، أعلن وكيل وزارة الخارجية للشؤون الاقتصادية ستيوارت ايزنشتات أن الوزارة تقوم بعملية مراجعة شاملة لجدوى استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. والواقع أن إيران تحتل أهمية استراتيجية متميزة في السياسة الاميركية تجاه الشرق الأوسط وآسيا الوسطى: فهي من أكثر دول المنطقة سكاناً، وهي دولة نفطية كبيرة. كما أنها تملك ثاني أكبر احتياط للغاز الطبيعي في العالم، ثم أنها عامل مؤثر بالنسبة الى منطقة بحر قزوين التي تقدر احتياطاتها من نفط وغاز ب 4 تريليون دولار، ثم أنها أقرب طريق الى خطوط الأنابيب من وسط آسيا الى الخليج والأسواق الأوروبية. إنها بإيجاز، تُمثّل عامل ربط، ودعامة محورية في أية شبكة علاقات بين مناطق ذات أهمية استراتيجية عالمية. ولفترة طويلة، اعتبرت الاستراتيجية الاميركية إيران أداتها الرئيسية لتأمين المصالح الغربية في منطقة الخليج. لذلك جاء قيام الثورة الإيرانية العام 1979، وتغير التوجهات السياسية لإيران، ثم الاستيلاء على مبنى السفارة الاميركية في طهران، وأزمة الرهائن، بمثابة ضربة موجعة سياسياً ومعنوياً لمخططي السياسة الاميركية. مع ذلك، وعلى رغم إعلان سياسة "الاحتواء المزدوج"، استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين حتى العام 1995. وفي مقال لتوماس فريدمان، في جريدة "هيرالد تريبيون" بتاريخ 30 آذار مارس 1995، ذكر أنه حتى هذا العام، فإن اميركا كانت هي الشريك التجاري الأول لإيران، وأن الصادرات الاميركية إلى إيران زادت عشر مرات منذ العام 1979، وأن شركات النفط الاميركية اشترت العام 1994حوالي 30 في المئة من صادرات إيران النفطية بمبلغ 25،4 بليون دولار. ومع منتصف العام 1995، حدث تحول اميركي واضح ضد إيران، ففي 6 حزيران يونيو بدأ العمل بقرار الحظر التجاري على إيران. ودعت واشنطن حلفاءها الى المشاركة في تنفيذ هذا الحظر. وفي تموز يوليو من العام نفسه، اصدر الرئيس الاميركي أمراً تنفيذياً يحظر على الشركات الاميركية الاستثمار في إيران، ومنع شركة "كونوكو" الاميركية من تنفيذ عقدها لتطوير آبار النفط الإيرانية. ورافق ذلك وصف وزير الخارجية الاميركي، وقتذاك، وارن كريستوفر لإيران بأنها دولة "خارج القانون". وصرح قائد القوات الاميركية في الشرق الاوسط باحتمال حدوث صراع مسلح بين البلدين. وربما كان منبع هذا التحول الاميركي اعتقاد واشنطن بتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية في إيران، وبأن تفعيل الحظر الاقتصادي عليها يمكن أن يسرع بسقوط النظام، أو على الأقل يغير من توجهاته. وتلا ذلك صدور قانون "داماتو" في العام 1996، الذي يفرض عقوبات اقتصادية على أية شركة، بغض النظر عن جنسيتها، تقوم بالاستثمار في إيران بما يتجاوز 40 مليون دولار. ومع بداية العام 1998، بدأت واشنطن عملية مراجعة وتقويم لنتائج هذه السياسة التي كان من الواضح أنها لم تحقق أهدافها، خصوصاً بعد وصول محمد خاتمي الى السلطة في العام 1997، ونجاحه، خلال عامه الأول، في تغيير صورة إيران في العالم عموماً، وبين جيرانها في منطقة الخليج بصفة خاصة. كان من دلالات ذلك توقيع إيران على معاهدة حظر الاسلحة الكيماوية، وإدانتها للإرهاب، وتبني خاتمي لقوى الاعتدال والانفتاح داخل المجتمع الإيراني، ورفعه لشعارات تجد هوى لدى الآذان الاميركية، مثل: حقوق الإنسان، والمجتمع المدني، وحكم القانون، وسعيه الى الانفتاح على العالم الخارجي، وقدرته على المناورة إزاء التيارات المتشددة في إيران. وتكفي الإشارة الى الاحتفال الذي نظمته جامعة إيران بمناسبة مرور عام على توليه السلطة، والذي أكد فيه أنه لن يحيد عن طريق إقامة مجتمع أكثر تمتعاً بالحرية وحكومة مسؤولة أمام الشعب، مشيراً الى أنه إذا وقع صدام بين الدين والحرية، فإن الدين سيكون هو الخاسر. وعندما بدأت مجموعة صغيرة من الطلاب المتشددين، الذين حضروا الاجتماع، في الهتاف "الموت لأميركا"، كان تعليق خاتمي: "إنني افضل في هذا اللقاء أن نتحدث عن الحياة لا عن الموت". وفي مناسبة أخرى خلال الأسبوع نفسه قال إنه "ينبغي أن تكون لإيران سياسة خالية من العنف والقسر، قائمة على احترام حقوق الإنسان، والسيادة الشعبية، والتسامح الفكري، والحرية كقيمة في حد ذاتها". ولشهور عدة، دار حوار داخل أجهزة الإدارة الاميركية في شأن الموقف الذي ينبغي أن تتخذه واشنطن إزاء القيادة الايرانية الجديدة، وعما إذا كان ترحيبها بها يؤدي الى دعمها أم يجعلها لقمة سائغة في مواجهة العناصر المتشددة في إيران. ويبدو أن نتيجة هذا الحوار أسفرت عما يشبه الاتفاق على ضرورة قيام واشنطن بدور إيجابي إزاء تلك القيادة، وأن هذا الموقف الاميركي سوف يكون لمصلحة تيار الاعتدال وقيادة خاتمي. لذلك لم تتردد أولبرايت في الإشارة صراحة الى أن الإدارة الاميركية تحترم الرئيس خاتمي لأنه "من اختيار الشعب الإيراني". وأفصح هذا التوجه عن نفسه في عدد من المواقف الاميركية، مثل: إدراج اسم منظمة "مجاهدي خلق"، وهي المعارضة المسلحة الرئيسية للنظام الإيراني، للمرة الأولى منذ 18 سنة، على قائمة المنظمات الإرهابية، وهو ما يجعل أي نشاط لها داخل اميركا محظوراً بحكم القانون، وتنديد واشنطن بالانفجار الذي حدث في محكمة الثورة، ونفذته منظمة "مجاهدي خلق"، والموافقة على مشاركة الشركات الاميركية في عمليات محدودة في قطاع النفط الايراني، شريطة أن تكون في مجال اكتشاف آبار النفط في منطقة بحر قزوين، والموافقة على تصدير قطع غيار طائرات "بوينغ" الى طهران. وكذلك إبلاغ طهران أن تحركات حاملة الطائرات "نيميتس" في الخليج ليست موجهة ضدها، وعدم تطبيق العقوبات التي نصّ عليها قانون "داماتو" ضد شركة "نوتال" الفرنسية والشركتين الماليزية والروسية التي استثمرت في صناعة النفط والغاز الايرانية، واعتراض الرئيس الاميركي على مشروع قانون بفرض عقوبات على الشركات التي تتعاون مع إيران في مجال تكنولوجيا الصواريخ. وأيضاً اسقاط واشنطن اعتراضها على مرور خط أنابيب الغاز الطبيعي التركمانستاني الى أوروبا عبر الأراضي الإيرانية، واستعداد واشنطن، كما ورد في خطاب مادلين أولبرايت، لتقبل دور إيراني في الحفاظ على أمن الخليج. وأخيراً، تأكيد واشنطن على أنها لا تسعى الى تغيير نظام الحكم القائم في إيران. هذا الموقف الاميركي له بواعثه المتعددة، التي يأتي في مقدمها عدم استجابة حلفاء واشنطن الأوروبيين والآسيويين والعرب لتلك السياسة. وجاء اجتماع القمة الإسلامية في طهران، في نهاية 1997، إعلاناً مدوياً بسقوط "عزلة" إيران. أضف الى ذلك التطور الايجابي الذي حدث في علاقات إيران بدول الخليج العربية، وقيام السعودية بتوقيع اتفاقية تعاون متعددة الجوانب مع إيران. ومن الناحية الاقتصادية، جاء هذا الموقف الاميركي استجابة لضغوط شركات النفط الاميركية في الاستثمار في إيران، والتي أشارت الى أن الحظر الاميركي على إيران أضر بالصادرات الاميركية من دون أن يكون له تأثير يذكر في السياسة الايرانية. فضلاً عن ذلك، فإن تطلع الولاياتالمتحدة الى دور مؤثر في شأن نفط بحر قزوين يتطلب تعاوناً مع إيران، وذلك بالنظر الى وزن الدور الايراني وثقله في المنطقة. ولكن هذا الموقف الاميركي الجديد ترد عليه قيود عدة، فهناك قوى معادية لإيران داخل الكونغرس، وفي أدوات الإعلام، تتمركز حول اللوبي الصهيوني/ الاسرائيلي الذي يعتبر الاعتدال الايراني مصدراً للخطر، لأنه يسحب السجادة من تحت أقدام الذين يتحدثون عن الخطر الإيراني على الاستقرار والأمن في المنطقة. ومن وجهة النظر هذه، فإن التشدد الإيراني هو أكبر حليف لنتانياهو وسياساته. فهذا التشدد يوجد للحكومة الإسرائيلية المبرر للحديث عن مواجهة التيارات الاسلامية المتشددة، وعن دورها في الدفاع عن نفط الخليج. كما أن التشدد هو الذي يجعل حديث إسرائيل عن الخطر النووي الإيراني أمراً مفهوماً في الغرب. وربما كان شعور أولبرايت بوجود هذه المعارضة للتقارب مع إيران هو ما جعلها تربط الانفتاح على إيران بعدد من الاعتبارات، منها: الكف عن دعم الإرهاب، وانتقاد ممارساتها في مجال حقوق الإنسان. وهناك قيد آخر يتعلق بمدى استعداد واشنطن لتفهم الاحتياجات الدفاعية المشروعة لإيران، وهي التي تجد نفسها اليوم محاطة بدول ذات قدرات نووية وتمتلك صواريخ طويلة المدى: إسرائيل في الغرب، والهند وباكستان في الشرق. ويترتب على ذلك أن سعي إيران الى امتلاك أسلحة مماثلة يصبح أمراً مفهوماً للحفاظ على التوازن الاقليمي، ولحماية مصالحها الوطنية، من دون أن يكون بالضرورة تعبيراً عن نزعة عدوانية أو عن رغبة في الهيمنة. من ناحية أخرى، ما زالت الولاياتالمتحدة تعتبر إيران من الدول الراعية للإرهاب. وفي التقرير السنوي لوزارة الخارجية الذي قدم الى الكونغرس في نيسان ابريل 1998، ورد أن إيران كانت وراء تنفيذ 17 عملية اغتيال خلال العام 1997. ولا شك في أن هذا الموضوع سيكون على جدول أعمال أي حوار أو مفاوضات بين البلدين. أضف الى ذلك الموقف الإيراني ذاته والمطالب التي تطرحها طهران، مثل: رفع الحظر عن الأرصدة الإيرانية في البنوك الاميركية، ورفع الحظر التجاري على إيران، وإلغاء قانون "داماتو"، واحترام حق إيران في إنشاء مفاعلات نووية للاستخدامات السلمية في ظل نظام التفتيش الذي تقوم به وكالة الطاقة النووية. وهناك مسائل أخرى، مثل: ضرورة توقف اميركا عن مشروعها الخاص بإنشاء إذاعة "إيران الحرة"، وكذلك التوقف عن الإجراءات المهينة التي تتخذ ضد الزوار الايرانيين الى الولاياتالمتحدة وتتضمن أخذ بصمات الأصابع. والخلاصة أن تطورات العلاقات بين واشنطنوطهران تشير الى أن هناك سعياً جاداً من الطرفين الى بدء صفحة جديدة في العلاقات بينهما، ولكن هذا السعي تعترضه عقبات. فهناك معارضة لذلك من جانب اللوبي الصهيوني الإسرائيلي وبعض عناصر الكونغرس. كما أن هناك معارضة مقابلة من العناصر المتشددة داخل إيران. من الواضح أنه لا يوجد ضمان لنجاح هذا السعي. ولكن من الواضح أيضاً أنه لا يوجد خيار سوى المحاولة. * عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة