فيما كانت الولاياتالمتحدةوبريطانيا تبديان استعدادهما لمحاكمة المتهمين الليبيين في سقوط الطائرة الأميركية فوق لوكربي في بلد ثالث، كما طالبت ليبيا باستمرار، كانت الصحف الأميركية تنشر تفاصيل قضية عربية أخرى في الولاياتالمتحدة تؤكد صواب الاصرار الليبي على اجراء المحاكمة خارج هذين البلدين. طائرة الركاب الأميركية سقطت فوق بلدة لوكربي الاسكوتلندية في كانون الأول ديسمبر 1988 وقتل في الحادث الذي نجم عن انفجار 259 شخصاً على متن الطائرة و11 شخصاً على الأرض، وكانت الجريمة فظيعة يستحق مرتكبها، أو مرتكبوها، أشد عقاب ممكن، فلا جدال في ذلك. غير أن ليبيا رفضت من البداية تسليم مواطنين هما عبدالباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة اتهمهما الأميركيون والبريطانيون بوضع قنبلة في حقيبة أدى انفجارها الى سقوط الطائرة التي كانت متوجهة من لندن الى نيويورك. واعتبرت ليبيا ان المحاكمة المقترحة في بريطانيا أو الولاياتالمتحدة لن تكون عادلة، بسبب الانحياز الكامل ضدها. وأيدتها في موقفها هذا محكمة العدل الدولية أخيراً، وربما كان قرارها وراء تغيير الولاياتالمتحدةوبريطانيا موقفهما المعلن منذ سنة 1996 عندما وجهتا التهمة الى ليبيا رسمياً. طبعاً، بين سقوط الطائرة والتوجه الأخير الى محاكمة المتهمين في هولندا، كانت هناك حملة رهيبة على ليبيا، حتى ان هذه دينت قبل أن يحاكم الرجلان، كما كانت هناك العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على ليبيا، وبينها الحظر الجوي المعروف، ما كبد ليبيا خسائر كبيرة كانت بغنى عنها لو ان الولاياتالمتحدةوبريطانيا قبلتا من البداية المحاكمة في بلد ثالث. ولعل ليبيا تدرس إذا صدر الحكم بتبرئة المتهمين رفع قضية على الولاياتالمتحدةوبريطانيا لمطالبتهما بتعويضات. وكنت سجلت في الأشهر الأخيرة في هذه الزاوية عدداً من القضايا التي ثبت فيها خطأ احكام بريطانية على متهمين بتهم تتراوح بين القتل والارهاب. ولا أريد أن أكرر اليوم تفاصيل مأساة الصومالي محمود ماتان الذي أعدم سنة 1952 وبرئ هذه السنة من جريمة قتل. كذلك لا أريد أن أعيد سرد قضايا المتهمين بتأييد جيش التحرير الايرلندي الذين حكموا بالسجن مدى الحياة، وقضوا في السجن سنوات طويلة قبل أن تثبت براءتهم ويخرجون ليطالبوا بتعويضات. ولعل من القراء من يذكر قضية "ستة برمنغهام"، وهم ستة من هؤلاء المسجونين ظلماً، لأنني وجدت في مقابلهم "ستة أميركا"، وهم عراقيون مناهضون لصدام حسين أمرت دائرة الهجرة الأميركية بترحيلهم بعد أن كانت الولاياتالمتحدة سنة 1996 نقلتهم الى غوام، ثم جنوب كاليفورنيا، عندما سقطت قاعدتهم في شمال العراق أمام زحف قوات النظام العراقي. وقررت إدارة الهجرة ان الستة هؤلاء خطر على الأمن الأميركي ويجب اعادتهم الى العراق ما يعني موتاً أكيداً. ويبدو أنها قررت ان العراقيين الستة كانوا عملاء مزدوجين للاستخبارات الأميركية وايضاً لايران، وربما للنظام العراقي نفسه. ومن حق إدارة الهجرة في أي بلد أن ترفض دخول أي انسان تعتبره خطراً على أمن البلد، ولا أحد يناقش إدارة الهجرة الأميركية في هذا الحق. إلا أن القضية تصبح ظلماً صارخاً عندما تعالج بالعدالة على الطريقة الأميركية، فإدارة الهجرة تقول ان عندها معلومات تدين الستة، إلا أنها تزيد ان المعلومات من الحساسية والسرية انها ترفض ان تعرضها على محامي الدفاع ليردوا عليها. وهكذا تكون ادارة الهجرة الأميركية نصبت نفسها خصماً وحكماً وجلاداً في "أعظم ديموقراطية في العالم" على ما نسمع حتى كدنا نصدق. ولا أحتاج ان أدافع عن العراقيين الستة هنا، بل أترك المهمة للأميركيين أنفسهم، مكتفياً بمقال افتتاحي قوي لجريدة "واشنطن بوست" هذا الاسبوع، شكّك في "سرية" الأدلة ضد المتهمين، وفي احتمال ان يشكلوا أي خطر على الأمن الأميركي، وبمقال آخر نشره أحد محامي الدفاع، وهو جيمس وولزي، في جريدة "وول ستريت جورنال" النافذة، ودافع بشدة عن المتهمين، ولكن هذا متوقع، وأهم منه قوله انه مدير سابق للاستخبارات، ومع ذلك فالأدلة تحجب عنه، وهو عنده أسرار الدولة كلها. كيف تحجب أدلة استخباراتية عن مدير سابق للاستخبارات عنده أسرار العالم؟ الجواب يجده القارئ في العدالة على الطريقة الأميركية. وإذا أراد القارئ مزيداً، فعندي له زيادة واحدة، ففي سنة 1996 نفسها عندما بدأت رحلة العذاب للعراقيين الستة أقرّ الكونغرس الأميركي اجراءات تقضي انه في حال اتهام مهاجر الى الولاياتالمتحدة بأمور أمنية سرية يوظف محام له ترخيص أمني للاطلاع على تقارير الاستخبارات، للدفاع عنه. وكما أسلفنا فالمحامي وولزي مدير سابق للاستخبارات، ثم ترفض ادارة الهجرة تسلمه أدلة سرية، مع أنه لا بد أن يكون صاحب أكبر حق في الاطلاع عليها. والمهم الآن ان تجرى محاكمة المتهمين الليبيين على أرض محايدة، مع الأمل ان تثبت براءتهما لتستطيع ليبيا مطالبة الولاياتالمتحدةوبريطانيا بتعويضات عن الأذى الذي ألحقتاه بها في حملة شرسة صدر فيها الحكم قبل أن تبدأ المحاكمة.