هل أصبح العالم يتيماً، بمعنى موت الأب، وقد ترك للأم ان تعني بالأسرة وحيدة من دون سند فتراكمت عليها المشكلات المستعصية، خاصة ان شباب الأسرة الذين خبروا الحرية الجديدة تهيأت لهم ظروف الفوضى؟ هذا ما يبدو لي من قراءة المشهد العالمي اليوم، فقد جبل تاريخ العالم الحديث على وجود قوتين منافستين ومتعادلتين في الوقت نفسه عالمياً، كان آخرهما المعسكران الاشتراكي والرأسمالي. وبزوال الاتحاد السوفياتي قائد المعسكر الاشتراكي، وتفكك تلك القوة المنافسة والمعادلة في العصر الحديث، أصبح على الولاياتالمتحدة ان تقوم بالدورين معاً، وهو دور يزداد صعوبة وتكلفة كل يوم. ازمات العالم تتكاثر، من ازمة الشرق الأوسط الى البلقان الى الأزمة الاقتصادية في جنوب شرق آسيا واليابان، ولكن أم الازمات - ان صح التعبير - لم تضرب العالم بعد، وتصيبه بالدوار، وإن كانت في طريقها الى ذلك، وأعني بها انهيار روسيا الجديدة. الانهيار الاقتصادي الوشيك لروسيا ليس تخميناً ولا رجماً بالغيب، بل هو حقيقة مرعبة معلقة فوق رؤوس العالم، يمكن ان تسقط في أي وقت وهي ان تمت فإن المشكلات التي واجهها العالم حتى اليوم تصبح جروحاً بسيطة وسطحية مقارنة بعملية جراحية صعبة ومعقدة بسبب سقوط الانهيار الروسي على رؤوس العالم. فالفترة التي تعيشها روسيا اليوم، حتى بمقاييس السنوات الصعبة، هي الاكثر حدة وغموضاً. روسيا مفلسة. وفي كلمة امام البرلمان الروسي منذ عدة اسابيع قال الرئيس بوريس يلتسن ان الازمة الروسية الاقتصادية اصبحت حادة الى درجة تحمل معها مخاطر سياسية واجتماعية حقيقية. وبعد اسابيع من التردد قدم رئيس الحكومة الروسية خطة اقتصادية لمحاولة انقاذ الاقتصاد الروسي، وهي خطة مكلفة ماليا وسياسياً، ستطبق اجراءات قاسية مثل تخفيض القوة العاملة في القطاع العام، والتخلص من "الدعم" الحكومي في قطاعات الزراعة والصناعة والنقل. وافق على هذه الخطة مجلس الدوما البرلمان على مضض رغم وجود غالبية شيوعية وقومية فيه، حيث لا توجد حلول اخرى ممكنة. ديون روسيا الدولية تصل الى حوالى 150 بليون دولار في اقل التقديرات، وتكاليف ادارة هذه الديون تبلغ عشرة بلايين دولار سنوياً، سترتفع في السنوات القليلة المقبلة الى ضعف ذلك المبلغ واضعة ضغوطاً حقيقية على الروبل المتذبذب اليوم في السعر، والذي تنخفض قيمته يوميا من دون ظهور امكانية للحفاظ على سعر ثابت له. هناك الملايين من العاملين الروس لم يحصلوا على رواتبهم منذ اشهر في المصانع والمناجم والمستشفيات والمدارس، بل حتى الجنود في الجيش. دام انقطاع الراتب في كثير من الاحيان الى قرابة العام مما جعل مجلة مثل "الايكونوميست" تتعجب في تقرير لها عن روسيا كيف واصل هؤلاء الحياة من دون مرتبات كل هذه المدة! لقد شهدت السنوات الثماني الماضية، التي سميت بسنوات الاصلاح، فوضى اقتصادية تسببت في احداث فروق اقتصادية بين المواطنين الروس لم يعرفها المجتمع الروسي من قبل، اذ كانت نسبة الدخل بين العشرة في المئة من السكان المصنفين طبقة عليا والعشرة في المئة المعدمة قبل الاصلاحات أربعة الى واحد. وبعد الاصلاحات حصل العشرة في المئة الأعلى على اثنين وعشرين في المئة من الدخل والفقراء على حوالي اثنين ونصف في المئة فقط، ووجد حوالي خمسة وعشرين مليون روسي انفسهم تحت خط الفقر. رأت الولاياتالمتحدة ان تسارع هي نفسها لتدبير قرض ضخم من المؤسسات المالية الدولية التي لها عليها نفوذ، لمحاولة تعويم الحكومة الروسية، وتم القرض في الاسبوع الماضي بالفعل. ولكن الاقتصاد الروسي اثبت في السنوات الأخيرة انه "بالوعة مال" لا تشبع او تروى. رجل مريض وربما غير متحكم في الامور يحكم روسيا الضخمة هو بوريس يلتسن. ليس له خطط واضحة في متابعة الاصلاح المرغوب الى آخر الشوط، اذ سرعان ما يغير وجهة نظره ان واجه ضغوطاً من البرلمان. وكان الامر السهل دائماً بالنسبة له هو اما الاقتراض من الخارج او الاستفادة من ازمة عالمية للضغط على المجتمع الدولي. اما داخلياً فإن الحيل قد أعيته، حتى انه حضر منذ ايام احتفالاً لدفن عظام يعتقد انها لآخر القياصرة من آل رومانوف، على رغم تصريحات سابقة له انه لن يحضر خاصة ان الكنيسة الارثوذكسية الروسية تشكك في صحة نسبة العظام للقيصر. وكان حضور يلتسن مجرد محاولة لاكتساب شعبية منهارة، وهي حيلة سياسية قد تضر اكثر مما تنفع. ان مجتمعاً تتفاقم فيه البطالة وتتفشى فيه الجريمة الفردية والمنظمة، وتختفي فيه سريعاً الطبقة الوسطى لتلتحق بشريحتين اما اقلية بالغة الثراء من مصادر غير شرعية، او شريحة اوسع بالغة الفقر والحاجة، تقوم بأي فعل من اجل الحصول على القوت، هو مجتمع خطر. واذا اضفنا الى ذلك انه مجتمع متعدد القوميات والأعراق، ومسلح ببقية اسلحة الدمار الشامل المتخلفة من الامبراطورية السوفياتية، فان خطورة هذا المجتمع تتعدى حدود وطنه الواسعة لتصبح عابرة للقارات. امام مثل هذا التهديد الكامن والممكن لسلام العالم واستقراره، فإن الولاياتالمتحدة وحلفاءها الغربيين سيولون بالتأكيد تلك الازمة اولوية تفوق اي ازمة اخرى، ومن بينها ازمة الشرق الأوسط المستعصية والغارقة في وحل المفاوضات. ذهب الرئيس بيل كلينتون الى الصين قبل اسبوعين ليس من اجل زيارة سور الصين العظيم، ولا من اجل تعزيز موقف دعاة حقوق الانسان الصينيين، ولكنه ذهب هناك اساساً ليمضي تسعة ايام في اقناع القيادة الصينية بعدم تخفيض عملتها المحلية، لأن في ذلك ضرراً على الاقتصاد العالمي يعاني منه المنهارون كالروس واليابانيين، كما يمكن ان يعاني الاميركيون منه أيضاً في نهاية المطاف، فليس مصادفة ان تتوالى الانهيارات الاقتصادية في شرق آسيا فتتصاعد الازمة الروسية وتتصاعد بالتالي المخاوف الاميركية. رفع كلينتون في حملته الأولى للرئاسة شعاراً لا يزال يذكره بعضهم يقول "انه الاقتصاد يا غبي" وكان اشارة الى اولوية اصلاح الاقتصاد الاميركي وقتها لأنه مفتاح السياسة، هو يرفع الشعار نفسه اليوم وان لم يذكره "انه الاقتصاد يا غبي"، لكنه هذه المرة يقصد الاقتصاد العالمي اذ انه لو انهارت روسيا اليوم بفعل الضغوط الاقتصادية الكبرى عليها فإن الاقتصاد العالمي سيستقبل ازمة مستعصية قد تقود الى حروب شعواء. لو اندلعت حروب اهلية في جمهوريات الاتحاد الروسي - هذا ممكن - فإن نتائج حرب الافغان او حروب البلقان ستكون بمثابة ألعاب صغيرة ان قورنت بحروب محتملة اهلية او عرقية او قومية في هذه القارة المترامية الاطراف، بخاصة ان امتدادها الى جمهوريات "كومنولث" الدول المستقلة الاتحاد السوفياتي السابق سيكون اجتياحاً شبه اشتعال النار في الهشيم. وهنا يصير التساؤل واجباً عن حال الدول العربية وموقفها ازاء هذا الحريق المحتمل المرعب في الجوار الجغرافي القريب. عانى العرب، وما زالوا، من حروب البلقان الاخيرة، ولو باهمال قضاياهم، كما عانوا مباشرة من نتائج حروب الافغان. ولكن حرباً اهلية بالغة القسوة في روسيا قد تعرض الأمن الاقليمي في المنطقة العربية لخطر حقيقي. فمع سقوط نفوذ الدولة تصبح القوى الجديدة في روسيا في حل من امرها تعيث فساداً في منطقة بأكملها، وإذا تذكرنا ان روسيا لا تزال تحتضن عشرات الآلاف من الفنيين والمتخصصين في الاسلحة الحديثة المدمرة، وبوجودهم في سوق طاردة سيكن من السهل استقطابهم بكل ما يمتلكون من خبرات لتوظيفهم في مجالات محظورة لدول متعطشة الى القوة بأرخص الاثمان في منطقتنا. ولكن ماذا لو تفاقم الوضع الى درجة استخدام اسلحة دمار شامل في صراع القوميات؟ حينها سيكون الامر اكثر خطورة. فمثل هذه الاسلحة لا يبقى تأثيرها محلياً، بل سينتشر في الجيرة الجغرافية. ولن تكون هناك دولة لمعاقبتها دولياً على صنيعها، بل عصابات مسلحة لا تعرف حتى قياداتها، ويصبح العالم مهدداً من حيث لا يعرف. اما المافيا وغسيل الاموال وتصدير المحرمات فانها نتيجة طبيعية لهكذا فوضى ممكنة ومحتملة، وستعاني منطقتنا من مثل هذه الفوضى كونها الممر الطبيعي لمثل هذه الصادرات. كانت امام العالم تجربة مهمة في التغيير الشكلي لمسار الفشل الاقتصادي الى مجرى آخر، وهي تجربة ماوتسي تونغ في الصين. فبعد فشل ذريع لخططه الاقتصادية، حول ماوتسي تونغ هذا الفشل الى جيشان سياسي سماه لاحقاً بپ"الثورة الثقافية". وعملت هذه الثورة المصطنعة على تحويل الانظار عن المشكلة الأم، الاقتصاد، وتسببت في صراع سياسي داخلي، صفي فيها آلاف من المواطنين، وكانت بدورها كارثة اقتصادية للصين. وقتها لم يكن العالم كما هو اليوم في "الاعتماد المتبادل"، وكان من الممكن ان تبقى كوارث الثورة الثقافية محصورة في داخل اسوار جمهورية الصين. اما ان يكون الخلل الاقتصادي بحجم وخطورة ما يشاهد في روسيا اليوم فليس من الممكن حصر نتائجه الكارثية في داخل اسوار روسيا التي اصبحت اصلاً بلا أسوار. وبعيداً عن المناورة السياسية الشكلية التي قام بها يلتسن في حضوره الاحتفال بدفن ما زعم انه رفات آخر القياصرة الروس من آل رومانوف، فإن "اظهار" هذا الرفات الآن يمثل مغزى رمزياً سواء جاء مصادفة او تعمداً. فقد كان اعدام آخر القياصرة على يد فرقة من الجيش الاحمر إبان الثورة البلشفية يؤذن باسدال ستار دام على حكم القياصرة الذين شهدت روسيا في آخر ايامهم ازمات مستحكمة أدت الى الثورة عليهم، وبظهور عظام آخر القياصرة في كرنفال اعلامي يستثمره نظام حكم جديد مأزوم، يخشى ان نكون في وشك مشاهدة ستار دام جديد يفتح على فصل دام جديد من فصول الحكم في روسيا. لكن العالم لم يعد كما كان عليه في بداية القرن. فزمن البنادق البدائية والاتصالات والمواصلات البطيئة قد ولّى، وصار السلاح فتاكاً والمواصلات والاتصالات تحاكي سرعان الصوت والضوء. لهذا كله ارى ان الازمة الروسية الحالية، اقتصادياً وسياسياً، هي "ازمة الازمات" التي تعصف بالعالم، ومن ثم أتوقع ان يكون الانتباه والالتفات اليها ذا اولوية تتضاءل الى جوارها اهمية الازمات الاخرى. * رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية.