يوجد الكثيرون في العراق وفي البلاد العربية ممن يأملون في دمقرطة العراق، اي في قيام عراق تطلق فيه الحريات العامة، حرية التعبير عن الرأي والاجتماع وتكوين الاحزاب والجمعيات والهيئات النقابية. يأمل هؤلاء في قيام تعددية حزبية حقيقة في العراق تفسح في المجال امام التنافس الحر بين الجميع، بين القوميين والوطنيين، بين الاسلاميين والعلمانيين، بين اليمينيين واليساريين والوسطيين. ويأمل هؤلاء ايضاً في قيام حكومة برلمانية يختارها العراقيون بالانتخاب الحر بين مختلف الجماعات السياسية المتنافسة على خدمة المصالح الوطنية العراقية. كذلك يتطلع هؤلاء الى تكريس مبادئ تداول السلطة والشفافية في الحكم، واحترام الاكثرية للاقلية والحرص الاكيد على حقوق الافراد. وتتسع تطلعات هؤلاء لكي تشمل سياسة العراق الخارجية اذ يأملون ان تركز على اخراجه من حاله الراهن عن طريق تسوية علاقاته مع بعض جيرانه العرب والايرانيين، وتطويرها على نحو يخدم الاستقرار الداخلي والاصلاح السياسي في المنطقة، وعلى النهوض باقتصادها وعمرانها. فهل تخدم السياسة الاميركية تجاه العراق حرب الخليج عام 1991، الاحتواء الذاتي، تشديد العقوبات وتمديدها الخ... هذه الآمال؟ هل تخدم الضربة العسكرية الاميركية المتوقعة مثل هذه التطلعات؟ التطورات التي ألمت بالعراق منذ بداية التسعينات وحتى الآن، ترجح ان العكس هو الصحيح، اي ان السياسة الاميركية لعبت ولا تزال تلعب حالياً دوراً رئيسياً في اضعاف فرص التحول الديموقراطي - على محدوديتها - في العراق. كيف؟ ولماذا؟ 1 - لأن الولاياتالمتحدة، وهي الطرف الاقوى في الصراع الدائر حالياً حول المسألة العراقية، لم تعتبر آنفاً، ولا تعتبر اليوم ان دمقرطة العراق هو هدف من اهداف سياستها الرئيسية، فضلاً عن ذلك فإن الزعماء الاميركيين لم يقولوا لا في السابق ولا حالياً ان قيام نظام ديموقراطي في العراق ينسجم مع مصالح الولاياتالمتحدة وقيمها. عندما كانت ادارة بوش تحضر للحرب ضد العراق، اثار بعض الزعماء الاميركيين مسألة قيام نظام ديموقراطي برلماني في العراق، ولكن ليس باعتبار ان النظام الديموقراطي هو النظام الافضل للحكم، وإنما من زاوية ان قيام مثل هذا النظام في بغداد سوف يحول بينها وبين دخول الحرب ضد اسرائيل. اي تطبيقاً لنظرية الفيلسوف الالماني ايمانويل كانت القائلة بأن الانظمة الديموقراطية لا تتحارب، وعلى اساس ان اسرائيل هي دولة ديموقراطية. الادارة الاميركية الحالية تركز ان الغرض هو حمل بغداد على القضاء على اسلحة الدمار الشامل. هذه المسألة لا علاقة لها بنظام الحكم في العراق او في اي بلد آخر. الدول الديموقراطية في العالم هي التي تملك اكبر كمية من اسلحة الدمار الشامل. بالمقابل، فان الانظمة المطلقة لا تحتاج بالضرورة الى مثل هذه الاسلحة. اكثر ما تحتاج اليه الحكومة المطلقة هو جهاز بوليسي فعال. فرانسوا دوفالييه وابنه جان كلود بسطا سلطتهما المطلقة على هايتي لمدة 14 عاماً وتسببا في مقتل 40000 مواطن بالاعتماد على ميليشيا "تونتون ماكوت" ومعتقدات وطقوس الفودو. اما اسلحة قوات دوفالييه فكانت من النوع الخفيف الذي قدمته له الولاياتالمتحدة دعماً لحكومته. ان ازالة اسلحة الدمار الشامل من يد اي حاكم لا تؤثر في طبيعة نظام حكمه. وراء هذا الموقف الاميركي من مستقبل الديموقراطية في العراق والمنطقة العربية توجد نزعتان تؤثران على صانعي القرار والرأي العام في واشنطن: الأولى هي النزعة "الواقعية". اصحاب هذه النزعة يحذرون من الاعتقاد بأن انتشار الديموقراطية في الدول الاخرى هو، بالضرورة، مفيد للولايات المتحدة. من هذه الناحية يقارن هنري كيسنجر، وزير الخارجية الاميركي الاسبق، بين المانيا في الثلاثينات وروسيا الحالية لكي يستنتج بأن "رئيسا روسيا منتخبا قد يتبع اكثر السياسات اثارة للصعاب والمتاعب"، وان الديموقراطية الروسية قد تُشجع السياسة التوسعية، هذه النصائح لا تنطبق على روسيا فحسب، إنما تنسحب ايضاً، في نظر "الواقعيين" على المنطقة العربية. ان قيام نظام ديموقراطي برلماني في العراق وتعددية حزبية لا يعني، بالضرورة، انه سوف يبدل سياسته الاقليمية. النزعة الثانية نزعة معادية للعرب. اصحاب هذه النظرة لا يعارضون تصدير الديموقراطية ولا يرون في ذلك تعارضاً مع المصالح الاميركية ولكنهم يعتقدون انه لا مكان للديموقراطية في البلاد العربية وان النظام الافضل للحكم فيها هو النظام المطلق. نقطة الالتقاء بين هاتين النزعتين في ما يتعلق بالمسألة العراقية والاوضاع العربية عموماً هي ان تكون النخب الحاكمة مع او ضد الولاياتالمتحدة، مع او ضد اسرائيل، تابعة للاثنين معاً، او مستقلة عنهما. 2 - ان السياسة الاميركية الحقت ضرراً كبيراً بالطبقة الوسطى العراقية، وبسائر الجماعات والفئات التي يمكن ان تشكل قاعدة اجتماعية للانتقال الى الحكم الديموقراطي. لقد أدت تطورات سياسية واقتصادية واجتماعية، مثل الصراعات الحادة التي تعرض لها العراق، ونمو قوة الدولة المدعوم بالمدخول النفطي الكبير على حساب قوة المجتمع المدني العراقي، والسياسة الرامية الى القضاء على كافة القوى باستثناء النخبة الحاكمة، كل ذلك ادى الى الحد من قوة الطبقة المتوسطة ومن تأثير الجماعات التي تحتضن عادة عملية الانتقال الى النظم الديموقراطية. بيد ان فقدان هذه الجماعات قدرتها على التعبير عن نفسها بحرية شيء لا يعني انها لم تكن موجودة في العراق. بالعكس، اننا نجد ان الطبقة المتوسطة العراقية نمت نمواً سريعاً في العقود الاخيرة من الزمن. فضلاً عن ذلك فان عدداً كبيراً من افراد هذه الشريحة الاجتماعية النامية عاد الى العراق بعد تلقي تعليمه في الخارج او اتيحت له فرصة زيارة الدول الاخرى مرات متكررة. وبسبب هذا الاحتكاك بالآخرين امكن لهؤلاء المقارنة بين النظم السياسية المختلفة والاطلاع على فوائد النظام الديموقراطي وإيجابيته. ورغم انه لم تجر اي محاولة لبحث الاتجاهات السائدة بين هؤلاء، فالارجح انهم تحولوا، مع الشرائح الاجتماعية التي نشأوا فيها، عضداً تلقائياً لأي تحول ديموقراطي في العراق مستقبلاً. منذ بداية التسعينات وحتى الآن، اصبح ملاحظاً ان هذه الشرائح الاجتماعية تتناقص باستمرار اما بسبب الادقاع الذي ألم بها بعد ان حرمت من المداخيل التي كانت تتمتع بها في السابق، او بسبب الهجرة الاقتصادية حيث يتردد ان عدد العراقيين الذين تركوا بلدهم خلال التسعينات يفوق المليون عراقي، وان نسبة عالية من هؤلاء هم من المهنيين ومن ابناء الطبقة المتوسطة. وسواء ضعفت هذه الشرائح الاجتماعية وضعف تأثيرها بسبب الادقاع او الهجرة، فان لهذه الاسباب علاقة مباشرة بسياسة الاحتواء المزدوج والحصار والعقوبات والاعمال الحربية التي نفذت ضد العراق فأعادته كما قال مارتي اهتيساري، رئيس بعثة هيئة الأممالمتحدة للاطلاع على آثار الحرب، الى "ما قبل العصر الصناعي". 3 - لأن هذه السياسة التي تساهم في الحاق الآلام الشديدة والعذاب بالعراقيين سوف ترتبط في اذهان المواطنين بالغرب. صحيح انه هناك دول غربية لا توافق عليها، او تحاول تغييرها. ولكن بسبب الدور الذي تضطلع به الولاياتالمتحدة غربياً وعالمياً فسوف يترسخ في الذاكرة الشعبية العراقية ولأجيال عديدة قادمة ان الغرب مسؤول عن المعاناة التي اصابت بلادهم. هذه النظرة لا ولن تؤثر على المشاعر الشعبية ومشاعر الرأي العام تجاه سياسة الغرب العراقية والعربية فحسب، وإنما تنسحب على ما يعتبر في مصاف القيم والمبادئ الغربية، ومنها الديموقراطية. اننا نشهد اليوم في اماكن متفرقة من المنطقة العربية تعبيرات متنوعة عن هذا النمط من المشاعر، منها ما هو في منزلة الاجرام مثل الاعتداء على السواح ورجال الدين الغربيين في بعض الاقطار العربية، ومنها ما هو اقل عنفا ولكن ليس ادنى خطورة، وهو ذلك المتمثل بتكفير وتخوين الديموقراطية والديموقراطيين في اوساط شعبية اوسع. ان هذه الاحكام تكتسب شعبية اوسع، عندما يجد العراقيون اقوى الدول الديموقراطية في العالم الولاياتالمتحدة وأعرقها بريطانيا تنفذان سياسة لا تسبب الاذى للقيادة العراقية بمقدار ما تمعن في الحاق الضرر في العراقيين. ان النتائج السلبية للسياسة الاميركية تجاه المسألة العراقية لا تقتصر على مستقبل الديموقراطية في العراق فحسب، بل تتسع لكي تشمل المنطقة العربية ايضاً. ذلك ان هذه السياسة تكاد تحصر الاجندة الاقليمية وهموم المنطقة بقضية واحدة فقط: هي امن اسرائيل. من هذا الثقب ينبغي للعراقيين ان يمروا بعد ان يؤكدوا، ليس انهم لم يعودوا يملكون اسلحة الدمار الشامل فحسب، بل وانهم لن يفكروا في اعادة صنعها او الحصول عليها في المستقبل. ان التركيز على هذه المسألة يستهلك طاقات المنطقة ويحول مواردها الى التفتيش عن طرق التأقلم مع رغائب ومشاريع الاسرائيليين المدعومة اميركياً، بدلاً من اهتمام المنطقة العربية وأبنائها بقضايا النهوض الداخلي وفي مقدمها الاصلاح السياسي والديموقراطي.