لا يخلو وصم السياسة العراقية بالعنف الحادّ، من صواب كبير. وأما إرجاع ذلك الى "الطبيعة العراقية المتأصلة" فان فيه مبالغة، وإن لم يخلُ الحكم من بعض الصواب. وإذا عرف العراق منذ أقدم الازمان عنف الصراعات السياسية، وعنف القمعين الاجنبي الغازي والمحلي، فان المسؤول الأول عن عنف الحياة السياسية العراقية المعاصرة، اثنان: استبداد واستهتار العهد الملكي من جهة، وتطرف الاحزاب السياسية المعارضة لذلك العهد، من جهة اخرى. وعندما تحولت الساحة بعد ثورة 14 تموز يوليو 1958 الى احترابات ايديولوجية، لا سيما بين الشيوعيين من جهة، والبعثيين والناصريين المتحالفين معهم من جهة اخرى، فإن الصراع السياسي تحول الى عنف دموي متواصل، ما بين الفعل المتطرف وردّه، ثم ردّ الرد، حتى جرى "التتويج" المأسوي في موجة التعذيب والتجاوزات والمذابح عام 1963، ولحدّ يومنا هذا. ومع ان قوى المعارضة العراقية الحالية، وعناصرها متفقة على مجابهة حكم البعث المهيمن، فإن العقليات، والمواقف، والممارسات لم تتغير كثيرا عن عهود الصراعات فيما بينها، ولا تكاد تتميز عن عقلية الحكم ذاته، مع وجود الاختراقات الاجنبية، على اكثر من طرف. فقبل ثلاثة أعوام تقريباً، تصدى بعض الاسلاميين المعارضين لوجود ممثلي التنظيم الشيوعي في دمشق في معسكر المعارضين. ومنذ عامين، تقريباً، تواصل أقلام محسوبة على القوى "القومية" فتح سجلات الاحداث المأسوية في عهد قاسم وفي 1959 خاصة باتجاه رمي كل المسؤوليات على الشيوعيين وقاسم، وتبرئة الذات براءة الذئب من دم يوسف! والحال ان الطرفين أساءا، وساهما في تردي الاوضاع، وفي تأجيج الصراعات، وفي خلق الشروط والظروف لتحول حكم قاسم الى حكم عسكري فردي، مزاجي. وقبل اقتراف الشيوعيين لتجاوزات الموصل وكركوك كان الطرف الآخر قد تورط، مع الجهاز المصري عهدذاك في سلسلة من المؤامرات على حكم قاسم، وبفضل دمج العراق قسراً، وبلا نقاش علني مسبق وبلا احتكام للشعب ومؤسساته، في "الجمهورية العربية المتحدة". وكانت الذروة تمرد الشواف بالسلاح، واعتقاله المئات من الشيوعيين والديموقراطيين، وإعدام بعضهم ومنهم المحامي البارز كامل قزانجي. ولم تكن هذه التجاوزات لتبرر للشيوعيين وأنصارهم ومعهم الحزب الكردستاني الاندفاع في التجاوز، وإلغاء القانون، والاعدامات الاعتباطية، ثم تورط ضباط شيوعيين أو محسوبين عليهم في جلسات تعذيب وإهانات للمعتقلين. وهذه الافعال المأسوية المدانة، لم تبرر، بدورها، موجة التعذيب والقتل الجماعية بعد مصرع قاسم في عملية قال بعض زعمائها فيما بعد انها مرّت في "قطار اميركي"! ان المسؤوليات مشتركة، مع وجوب التمييز، والواجب الوطني الأعلى يقتضي الإقرار بالخطأ، لكسب ثقة الشعب، ولتبرير عناوين الديموقراطية والتقدمية التي يرفعها الجميع. ويُذكر لعبدالكريم قاسم، وبرغم كل اخطائه، وارتجاليّاته، وتشجيعه لعبادة الفرد، انه هو الذي طلب من المعتقلين "القوميين" كتابة شهادات تسرد وتدين جلسات الاهانة والتعذيب، حيث تكلموا بكل صراحة وبشيء من المبالغة مع ذكر اسماء أوردوها. وقاسم هو الذي عفا عمن أقدموا على محاولة اغتياله من البعثيين، وسمح لهم بأقصى فسحة من المرافعات العلنية امام محكمة المهداوي بالذات، وحتى بنقد الحكم والدفاع عن البعث... وفي عهد قاسم تم نشر كل تلك الوقائع وغيرها، وبأمانة تامة، في موسوعة صدرت بعدة مجلدات. فأي حكم، بعد قاسم، سمح بشيء من تلك الامكانيات العلنية للمعارضين السياسيين!؟ وهذا من دون دفاع عن محكمة المهداوي ومهازلها ولكن الأمور نسبيّة، والمقارنات مطلوبة. ومع ان افادات وشهادات المعتقلين القوميين لعام 1959 مثبتة وموثقة ومنشورة، فان بعض الحاقدين والموتورين تعمدوا، ويتعمدون حتى يومنا هذا، اضافة حكايات، واختلاق قصص وإشاعات في سياق التشبث المؤسف بأخطاء الماضي ومحاولة تلطيخ الآخرين بأي وسيلة كانت. ان الذين يريدون التصدي لمستقبل العراق، كما يعلنون، مطلوب منهم أولاً غسل خطاياهم علناً، وبلا رتوش، وبلا تجنٍّ على الآخرين. وهذا يصدق على الجميع، وبلا استثناء، وعلى تعدد الاتجاهات. ولا محل في الساحة السياسية النظيفة للادعاء المريض، ولا للتباهي الفارغ، ولا للافتراء على الآخرين وفبركة الاقاصيص الممجوجة والتافهة. ان مأساة شعبنا تستدعي اقصى روح نكران للذات، وروح المسؤولية، وفي مقدمة ذلك تطهير الذات، ولا بأس حتى بجلدها عند اللزوم! ويخطئ من يتوهمون احتكار الحقيقة المطلقة، أكانوا من الحاكمين، أو من المعارضين!