كان يوماً مشهوداً. مشاعر الفخر التي اعتملت في صدور المسؤولين الفرنسيين وهم يستعرضون وحدات الجيش الفرنسي وهي تتعاقب فوق أديم ساحة الكونكورد كان اكبر من الساحة الشاسعة ومن كل المساحات البعيدة التي يترامى اليها النظر. أعياد الاستقلال ليست فقط شيئاً للذكرى. هي عناوين مجد مستعاد يصل فيه الواقفون بثبات امام حشود الرجال المدججة بالسلاح معاني تجتمع حولها الامم وتفترق. لكن يوم الامس كان شيئاً في تاريخ فرنسا لا تستطيع هذه الأمة المتخبّطة في مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية ان تقفز عنه. كان هناك رذاذ بارد انسكب صباح الاثنين فوق باريس الملتهبة بالضوضاء والازدحام على رغم العطلة الوطنية. الرذاذ ارتشّ فوق العمال المنشغلين بإعداد منصة العرض العسكري والمقاعد المعدّة للشخصيات الرسمية المدعوة، وبلّل اطراف الجنود الذين ذرعوا جادة الشانزليزيه منذ الفجر الباكر استعداداً للاستعراض السنوي الكبير. لكن شيئاً ما كان ليزيل من البال الفرحة العظيمة التي عاشتها البلاد منذ مساء الاحد الماضي. فرنسا انتشت بالنصر. حلاوته استمرت اياماً وجمعت الملايين في الشوارع. تركوا بيوتهم وسياراتهم. نزلوا الى قارعة الطريق. انتابهم ما يشبه الاعصار. حالة الفرح لديهم قاربت الهذيان. اوشكت ان تكون جنوناً مطبقاً نسوا فيه كل شيء… الا الانتصار. مليونا شخص هزجوا وصرخوا فرحتهم في باريس. ملايين اخرى نزلت الى الشوارع ورقصت في ليون وليل وفي مارسيليا التي أتى منها الهدّاف الجزائري زين الدين زيدان. الألمان انتصروا والايطاليون انتصروا فلمَ لا ينتصر الفرنسيون؟ تاريخهم يكتبونه من بين خطوط يتيمة رسمتها كرة قدم هزّت ثلاث مرات شباك المنتخب البرازيلي في استاد فرنسا في سان دني، في ضاحية باريس. يدخل الفرنسيون الألفية الثالثة وهم ابطال العالم. الحقيقة تشبه حلماً اغريقياً ينهون به القرن العشرين. عمال النظافة لم يصلوا الى جادة الشانزليزيه الا عقب رحيل الحشود الهائلة بعد الخامسة صباحاً. الجادة تحولت الى قلب نابض لأمة لم تتحمل فرحة الانتصار. منذ ساعات المساء الاولى تدفقت جموع الفرنسيين. أوقفوا سياراتهم على بعد كيلومترات من الجادة وساروا على اقدامهم حاملين الاعلام ومحتفلين سلفاً بلذة الانتصار الذي لم يكن تحقق بعد. كانت فرحتهم اكبر من كل الاحلام. حينما انتهت المباراة أصمّوا آذانهم عن كل صوت باستثناء صرخات الفرح التي كانت تشقّ عنان السماء. الاضواء بقيت مشتعلة تقهر الظلام ومعها الزمامير وأبواق الفرح. خطوط الهاتف تعطّلت لكثرة المتصلين. الجميع كان يريد ان يقول شيئاً ما وان يعبّر عن فرحته. خطوط الهاتف لم تنصب ليوم تصبح فيه الكلمات قدر عدد البشر. أرهقت. خرست وبقيت الفرحة عنواناً يعلو العيون وتتصدر نشرات الاخبار وصفحات الجرائد. سكان الاحياء المجاورة للطريق الدائري المحيط بباريس أغلقوا نوافذوهم. الخوف من المفرقعات المجنونة التي اطلقت بالملايين كان هاجساً حقيقياً. الخوف من الحريق صدّته النوافذ الزجاجية المغلقة بإحكام لكنها لم تستطع ان تمنع نفاذ هدير الحناجر الصاخبة المعربدة التي تنشد المارسيلياز وتصرخ: "تحيا فرنسا"، "لقد انتصرنا". خريطة الهزيمة والانتصار كانت ترسمها الاضواء المنبعثة من نوافذ المباني والمنازل. من أطفأ أنواره في اليومين الماضيين نام مبكراً، محاولاً نسيان اصوات الفرحة التي كانت تنصب مثل شلال هادر يتدفق من كل الشوارع والجادات. امس والاثنين كانا يومي عطلة وطنية في فرنسا بمناسبة عيد الاستقلال. النائمون أطفأوا اضواءهم لأنهم لم يكونوا يشعرون بالرغبة في السهر. كانوا ايتاماً في بحر هائج من الفرحة. نزعوا علم البرازيل "الاصفر" وأغمضوا أعينهم على لوعة الهزيمة. المنتصرون احيوا انتصار فريقهم "الازرق" وأشعلوا الاضواء وصرخوا فرحتهم من دون وجل. منذ الحرب العالمية الثانية لم تعش فرنسا تظاهرة فرح من هذا القبيل. لم يخرج الناس الى الشوارع بالملايين مذ هُزم النازيون وانكمش شبح الحرب والموت. كانت الاهداف الثلاثة عنوان انتصار آخر. انتصار تاريخي يشبه ميلاد عصر جديد. الرئيس الفرنسي جاك شيراك لم يتمالك نفسه فلوح وقبّل واعتصر بين ذراعيه اللاعبين والمدرب. هنّأهم وقدّم لهم الكأس الذهبية، كأس العالم الذي انتصرت عليه فرنسا. الطقس خلال الايام الماضية كان مطيراً. كانت السماء كئيبة انكشفت إمام الشمس الساطعة. هدير الشوارع وفرحة الفرنسيين انعكسا على صورة السماء وركام الغيوم الرمادية. فوق قوس النظر في وسط ساحة شارل ديغول ايتوال النجمة صبّت اجهزة الليزر خيوطها البرّاقة راسمة على جدار النصب الكبير صور لاعبي المنتخب الفرنسي الذين حملوا، بأقدامهم، الشعور بالفخر الى كل فرنسي. المنتخب الفرنسي خرج الى جمهوره بعد ظهر الاثنين الطقس الماطر والرذاذ اللذان غسلا، في الصباح، وجه الشوارع ومنحاها شعوراً بالانتعاش غيبتهما الشمس، ووقف المؤيدون والمعجبون ليحييوا ويهتفوا. قيصر دخل روما وسار الى البانثيون. هناك جيش صغير من 23 لاعباً ومدربهم عبر الجادة الرئيسية في عاصمة النور. زحمة الطريق الدائري غير المألوفة بدأت منذ الصباح الباكر. الجميع تقاطر الى المنطقة ليُحيي ويقول انه فرنسي وانه شريك في هذا النصر. الاثنين لم يكن يوم عمل بل يوم عطلة استغلّه مشجعو المنتخب ليتدفقوا بمئات الآلاف ويحيّوا فريقهم في الجادة الشهيرة. وكذلك فعلوا امس مع الاستعراض العسكري. فرنسا المنتصرة اخذتها نشوة النصر. نسيت ماضياً قريباً وحاضراً لا تغيب عنه افكار السياسة والسياسيين. الجرائد تخاطفت فكرة البوتقة. فرنسا أتون تنصهر فيه القوميات والأعراق. فرنسا فوق الافكار العنصرية التي تعشعش في ازمنة الفقر. لاعب جزائري اسمه زيدان سجل هدفين لفرنسا في انتصارها التاريخي ضد البرازيل. في الغوادلوب رقص السكان ونزلوا الى الشوارع احتفالاً بإبنهم ليليان تورام الاسمر البشرة الذي انتزع نصر فرنسا في مباراتها نصف النهائية مع كرواتيا الاربعاء الماضي. هناك رغبة في التوصل الى تسوية بين الهوية والانتصار. كتاب فرنسا ومعلّقوها السياسيون كانوا حاضرين ليساندوا زملاءهم المعلّقين الرياضيين ويتحدثوا عن بوتقة الحضارات والأعراق. فرنسا احتفلت امس بعيد استقلالها. احتفلت وفي صدور الجنود الذين عبروا جادة الشانزلزيه فخر يعادل الشعور بالفخر الذي ملأ صدر الرئيس الفرنسي ورئيس وزرائه وبقية المسؤولين الى جانبهم. هناك كرة مستديرة ركلتها اقدام متسارعة على مدى ساعتين حملت فرنسا الى صدارة العالم وصدارة الكرة الارضية. إشعة الشمس التي انصبت على العرض لم تكن شيئاً ذا اهمية. الفرحة كانت اكبر منها