فرنسا لم تنم… الاحتفالات الكرنفالية عمّت أرجاءها طوال الليل والنهار وبقيت تدغدغ الساهرين آمال عريضة بمباراة اخرى عظيمة يوم الاحد. البهجة انتقلت كالعدوى، والجميع استسلم لها. منذ الحرب العالمية الثانية لم تعرف البلاد فرحة عارمة من هذا القبيل. كل المدن، كل الاحياء عاشت الليل مستيقظة وقد جفاها النوم. العَلَم الفرنسي المرفرف ونشيد المارسيلياز وزعيق الابواق الموسيقية كانت الخيط الواهي الذي ربط قلوب الفرنسيين ومؤيدي فريقهم بأضواء الفجر حينما لاحت في السماء. جاك شيراك كان يبتسم. قلبه كان مفعماً بالفرحة. قال للصحافيين لدى انتهاء المباراة: "اليوم هو احد افضل الايام في حياة الرياضة الفرنسية. أحيّي اللاعبين وأحيّي الفريق الذي كان اكثر من مجرد فريق رائع. وفرنسا تبلغهم تهانيها وفرحتها". اللاعب الاسطورة ميشال بلاتيني لم تمنعه جدية الموقف الرسمي عن القفز مرات ومرات مشجعاً ومحمّساً، الى يمينه جلس الرئيس شيراك والى يساره جلس الرئيس الكرواتي فرانيو تودجمان الذي أخفى بصعوبة مرارة شعوره بالهزيمة على رغم محاولته التجالد والابتسام في شكل باهت. المدرجات منذ البداية تحولت الى حلبات رقص كبيرة. الفتيات رقصن فرحات يستعرضن صباهن. شبان كثيرون صبغوا وجوههم وارتدوا قبعات كتبوا عليها اسم فرنسا وقفوا يحمّسون جماعات المتفرجين من اصدقائهم ومحبي الفريق الفرنسي. طقوس دخول الفرق والاعلام تشبه احتفالات المعابد وطقوسها. فرقة العزف الموسيقي وقفت وسط الملعب بينما اصطف فريقا اللاعبين. الخطيب يدعو الجميع الى الوقوف مع عزف النشيد الوطني لبلدي الفريقين. الحماس الوطني يعلو المنصات والمدرجات. المتفرجون الكروات استخدموا حركات بذيئة لدى عزف المارسيلياز. اعلام كل فريق تنتشر وترتفع. هناك عَلَم فرنسي يرتفع وينتشر على طول امتداد المدرج الجنوبي. تتخاطف الايدي اطرافه وترفعه الى اعلى المدرجات مثل بحارة يستقبون اعصاراً مسرعاً. يصبح العالم خيمة تغطي مئات المتفرجين تحتها. الجميع يحرك العَلَم بقوة وتماوج. جموع المصورين تركض مثل اسراب نمل أهاجها سيل مفاجئ. موعد بداية المباراة اقترب وكل يتحرك لأخذ موقعه فيما صوت المذيع ينصب بنبرة "ستريو" عالية داخل الاستاد. الحرس في زحمة الدخول يتفقدون ويفتشون. رجال الامن يحذرون الداخلين من النشّالين: "احذروا ان تنشل بطاقاتكم". التحذير يتم باللغة الفرنسية، ومن لا يفهمها مسؤول عن جهله. البادرة لطيفة ولكنها لا تنزع شيئاً من سخونة الاجواء عند الابواب المفضية الى المدرج حيث 90 ألفاً من المتفجرين تدفقوا لأخذ مواقعهم. السوق السوداء تجد هواة لها في مناسبات من هذا القبيل. سائح اجنبي لا يفقه معاني صرف العملات وقف حاملاً يافطة كبيرة عليها اعلان يقول: "أشتري تذكرة دخول بمئة فرنك". قيمة التذكرة في المتوسط 1150 فرنكاً والسائح الهاوي لا فكرة لديه عن الاسعار على ما يبدو، ولا عن السوق السوداء التي تم فيها تداول التذاكر بأسعار راوحت بين 2500 فرنك و18 ألف فرنك بين 400 وثلاثة آلاف دولار لا سيما في منطقة الشانزيليزيه. باريس حبست انفاسها طوال المباراة والمارة وسائقو السيارات أخلوا الشوارع وعربات المترو. ومن ساروا في الشارع تحلّقوا حول شاشات التلفزيون المتاحة قرب الارصفة. بعض صالات السينما، التي فتحت ابوابها، خلال وقت المباراة، لم يستقبل اكثر من خمسة مشاهدين. الحدث الحقيقي كان في مكان آخر واكبر من اي فيلم هوليوودي. على حافة ارض الملعب فئة من المشاهدين غرست أعينها في بؤر زجاجية وثبتت اصابعها على عدسات الكاميرا المسلّطة على اللاعبين وعلى سندس الملعب بحثاً عن لقطة مناسبة تجد طريقها بعد ذلك الى صفحات وشاشات وسائل الاعلام. الاثارة كانت تستحوذ على المصورين الذين يرتدون سترات نيلية اللون كلما اهتزت الشباك او اصيب لاعب ما. المخرجون في الاستوديوهات المركزية كانوا من جهتهم يلتقطون ما تصبّه عدسات الكاميرات ويعطون تعليماتهم الى مصوريهم المنتشرين حول الملعب وفوق المدرجات لجمع اللقطات التي تشدّ اليها انظار بلايين المتفرجين حول العالم. زجاجات المياه والمرطبات بلا سدّادات في الملعب، يشرح رجل الشرطة، معتذراً، وهو ينزع سدادة قناة المياه المعدنية البلاستيكية: "السدادة يمكن ان تكون مؤلمة لو سقطات على رأس احد ما". يُفتش الداخلون يدوياً ولائحة الممنوعات كثيرة وبينها… منع ادخال الخناجر والمطارق والسكاكين. المباراة تبدأ ومعها مبادرات المتفرجين المتحمسين. هناك من يخطر على باله ان يبدأ التصفيق بايقاع منتظم. الجميع يلحقه. يصبح الايقاع خطاً سحرياً يربط بين وجدان الناس وقلوبهم وتسارع وجيب افئدتهم وهم يتابعون تدحرج الكرة السريع وتطايرها بين الأرجل والرؤوس. هتافات تتصاعد من الحناجر. الصرخات الجماعية تصبح هديراً يشبه رجع الصدى في مدرجات روما القديمة. بين الشطر الاول للمباراة والشطر الثاني وقفة استراحة تتفكك معها عرى الصفوف ويتحرك المتفرجون للتريّض والتجول بعيداً عن مقاعدهم الحديدية، ومثلهم يفعل المصورون. في المدرج متفرجون امامهم متفرجون يتفرجون بدورهم عليهم من ارض الملعب. هؤلاء المتفرجون، الذين يديرون ظهورهم للمباراة واللاعبين، يلبسون سترات حمراء وقبعات بيضاء وسراويل سوداء واحذية رياضية. دورهم ان يراقبوا سلوك المتفجرين في المدرجات وان يحولوا دون انزلاق متفرج يحمله الحماس، فوق الحواجز الحديدية المنصوبة، الى ارض الملعب. عددهم 150 حارساً ينتشرون امام المدرجات وعند المداخل. لكن أنّى لهم ان يقفوا في وجه 90 ألف متفرج يحقنون انفسهم بالادرينالين وأعينهم وانفاسهم اللاهثة تضيع عن كل رشد وهي تتابع بذهول مجريات المباراة". وعلى رغم ذلك فان الحيطة هنا تبقى خير من قنطار علاج. الليل لا يرخي سدوله الا عند العاشرة بعد ساعة تقريباً من بدء اللعب والمدرجات تتحول الى قبّة سماوية مصنوع سديمها من الوان الثياب وسحنات البشر. في وسطها تلمع فلاشات التصوير كأنها كواكب تشتعل وتنطفأ في أجواز الفضاء القريب. البريق واللمعان لا يتوقفان ومعهما لا يتوقف هدير الحناجر وهتاف المتحمسين. الحماس يغطي كل شيء ولكنه لا يغطي رائحة السيكار المزعجة التي تتصاعد بين صف وآخر من المقاعد. شراء التذاكر، حتى في عالم الرياضة، دليل قوة شرائية وبعض الرجال يحبون ان يوازوا فحولة اللاعبين الذين يتفرجون عليهم بإشعال سيكار غالي الثمن مزعج الرائحة لتذكير من حولهم بأنهم، ايضاً، مميزون ويستحقون الالتفات اليهم. في الخيمة التي نصبتها مجموعة "ماستركارد" قرب الاستاد لمدعويها وقف اللاعب البرازيلي الاسطورة بيليه يوقّع على قبعات واوراق المعجبين. في فندق "نيو بورت" في مدينة "ديزني لاند" المجاورة لباريس نزل جميع الركاب من الحافلة التي كانت ستقلهم الى الاستاد عندما شاهدوا حارس مرمى الفريق البرازيلي "القديس تافاريل" وصديقته الشقراء يخرجان من الفندق. الكل كان يلتقط صوراً وكان يريد ان يصافح، والفرنسيون كانوا في ذلك اكثر حماساً من بقية الحاضرين. فرنساوالبرازيل ستلعبان معاً وضد بعضهما بعضاً يوم الاحد. الفرنسيون يحلمون بانتصار "تاريخي" آخر والرهانات المعقودة على هذا الفريق او ذاك لا توازيها الا كثرة التعليقات الرياضية. الفرنسيون سيفرحون لو انتصروا بدون شك، لكنهم حتما لن يحزنوا طويلاً اذا هزمتهم البرازيل التي يعشقون لاعبيها