عرس الكرة العالمية بفضل التلفزيون والأقمار الاصطناعية. قبلها كان "المونديال" محروماً من المتابعة المباشرة لملايين الناس في البيوت، لا بل أن المباريات المحلية كانت تقدم للناس من خلال بث اذاعي: مذيع يصف أحداث الملعب على مربعات وهمية يتابعها المستمعون، ومع ذلك كان ثمة ما يشد المستمعين ويثير انفعالاتهم حول أهداف لم يروها، وكانت المخيلة مفتوحة على اتساعها. في تلك الأيام البعيدة، كانت لمخيمات قطاع غزة أعراسها الكروية... و"مونديالاتها" الخاصة، التي تجذب الناس وتدفعهم نحو الملاعب الرياضية القليلة. في مدينة خان يونس الصغيرة كانت المباريات الأسبوعية تجري بين فرق عسكرية تمثل جيوش الدول المشاركة في "قوات الطوارئ الدولية"، البرازيل، كولومبيا، السويد، الدنمارك، يوغوسلافيا وكندا، وكالعادة كان الناس يتابعون باهتمام وكثافة أكبر المباريات التي يكون "فريق البرازيل" طرفاً فيها، حيث كانوا يطلقون على تلك الفرق العسكرية أسماء بلدانها وكأنها منتخبات حقيقية، وليست مجرد فرق هواة من عسكريين محترفين، يمضون أوقاتاً بعيداً عن عائلاتهم وبيوتهم. ولأن مباريات "البرازيل" كانت تحظى بالاهتمام الأكبر، فقد صار أهل المخيم يعرفون اسماء أولئك الجنود البرازيليين ويهتفون مشجعين. تذكرني في هذه الوقائع بما يشابهها من أحداث فيلم سينمائي بعنوان "جورجي"، الذي يحكي عن قرية جورجية ساحلية يسمع أهلها فجأة عن لعبة اسمها كرة القدم من دون أن يتمكنوا من معرفة اصولها وقوانينها، حتى أنهم كانوا يتوهمون ان اللاعب الأكثر مهارة هو ذلك الذي يستطيع أن يقذف الكرة أطول مسافة ممكنة في الاتجاه الأعلى، ولهذا فهم حين يشكلون فريقاً خاصاً باللعبة لا يجدون من يلاعبهم سوى بعض بحارة باخرة انكليزية يقتنعون بذلك مجاملة لهم. يصطف لاعبو الفريقين بثياب متنافرة الألوان، وأحذية مختلفة الألوان والأحجام. يُنشد كل طرف نشيده الوطني، وتبدأ المباراة ليكتشف الجورجيون البسطاء أنهم لا يعرفون شيئاً ذا قيمة عن اللعبة، فيدفعون ثمن جهالتهم تلك خسارة فاقت الثلاثين هدفاً في مرماهم، فيصيبهم الاعجاب بلاعبي "الفريق الانكليزي"، الذي يعترف أفراده في لحظة المغادرة إلى الباخرة أن تلك المباراة كانت الأولى لهم طوال حياتهم. ومع ذلك يطمئن الجورجيون أنفسهم بأنهم خسروا أول مبارياتهم مع "الفريق الانكليزي" أي فريق البلاد التي مارست لعبة كرة القدم للمرة الأولى في العالم. تمنحنا "المونديالات" متعة التذكر والتأمل: ثمة أسماء عبرت ولا تزال ترن في الذاكرة، لأنها جاءت من "ريف" كرة القدم، حيث لا ينتظر أحد من أصحابها أن يصنعوا شيئاً ذا بال ولكنهم فعلوا. الكاميروني روجيه ميلا لا يزال في ذاكرتي يخطف الكرة من حارس كولومبيا "الواثق" ويودعها الشباك. السعودي سعيد العويران شاهدته آخر مرة ينطلق من منتصف الملعب يحاور خط الوسط والدفاع ومنفرداً حتى يواجه حارس المرمى ويودع كرته مسجلاً هدفه الذي اعتبره النقاذ أجمل أهداف "مونديال" الولاياتالمتحدة الأميركية عام 1994. ولا تزال في الذاكرة كلمات مدرب ايرلندا الغاضبة في "مونديال" 1990 لأن الفريق المصري "لم يأت كي يلعب"، ورد المدرب المصري محمود الجوهري الساخر: لم نأت كي نلعب بالطريقة التي يريدها مدرب ايرلندا. وكانا يعلقان على تعادل البلدين. أما ذكريات "المونديال" السوداء فتحتلها صورة مدافع كولومبيا الشاب ايسكو بار الذي فشل في صد كرة أميركية فدخلت شباك مرماه، فدفع حياته ثمن ذلك، إذ أمطره مشجعون من بلاده وابلاً من رصاص رشاشاتهم في بلاد المخدرات والقتل والمافيات السوداء. هل يمكن أن نتذكر عرس الكرة العالمية من دون أن نتذكر الأخضر بلومي وأهدافه المميزة وفوز الجزائر التاريخي على المانيا التي كانت غريبة، ومؤامرة التواطؤ مع النمسا لإبعاد الجزائر؟ وهل يمكن أن نتذكر عرس الكرة من دون أن نتذكر منتخب ايطاليا الانيق في مونديال 1982 ولاعبه الأبرز باولو روسي واعلانه الخالد عن اهداء الكأس الأثمن اسبوعاً للشعب الفلسطيني خلال حصار بيروت تضامناً وتأكيداً للوجه الإنساني لهذه اللعبة الجميلة؟ ثمة صور تتراقص في الذاكرة وتمحي، وأخرى تداعب المخيلة سنوات وسنوات. وفي كل "المونديالات" ثمة مشجع لا يتوقف عن الهتاف والغناء، والملفت أنه يشجع فيما وجهه للجمهور وظهره للمباراة، حتى لنتساءل: ماذا يشجع ذلك الذي يشتعل حماساً ويصبغ وجهه بألوان علم بلاده؟ * كاتب فلسطيني مقيم في سورية