غيّب الموت امس المطربة اللبنانية نور الهدى عن 74 عاماً. وكانت المطربة عانت كثيراً من الآلام الجسدية والنفسية وعاشت في الظلّ فترة طويلة مستسلمة لقدرها وهو قدر الفنان الحقيقي والأصيل في لبنان اليوم. وأكثر ما أذكر من حديثي مع الفنانة الكبيرة المرحومة نور الهدى، في منزلها في فرن الشباك، ضاحية بيروت الجنوبية، قبل سنوات، سؤالان يشكل الجواب عنهما خلاصة التكوين الفني الذي جعل من نور الهدى الكسندرا بدران من كبريات المطربات التاريخيات في القرن العشرين. سألتها: ما رأيك بفتحية أحمد، فوقفت بحماسة لم تفاجئني، وقالت لي: عندما كنت في الرابعة عشرة قال لي المرحوم والدي نقولا بدران اسمعي فتحية أحمد وتعلمي غناءها. فاذا لم تغني مثلها فلن تكوني يوماً مطربة كبيرة. سألتها: لماذا لم تكملي رحلة الطموح الغنائية السينمائية التي بلغت فيها الذروة في القاهرة. فأجابت: حين ذهبت الى القاهرة في أواخر تشرين الثاني نوفمبر 1942، كان طموحي ان أغني مع محمد عبدالوهاب في فيلم سينمائي. فلما حققت هذا الطموح فيلم "لست ملاكاً"، 1946، لم يعد عندي طموح أعلى أسعى الى تحقيقه. كان الغناء النسائي العربي بأسلوب منيرة المهدية لا يزال ينتمي الى أنماط القرن التاسع عشر في أوائل العشرينات، حين ظهرت أم كلثوم وفتحية أحمد، وظهر محمد عبدالوهاب، وأنشأ محمد عبدالوهاب الاسلوب العصري في الغناء الرجالي العربي الكلاسيكي، واختفى بعده الاسلوب القديم في الغناء. اما الغناء النسائي فنشأت مدرسته الغنائية الحديثة على سكتين، الاولى سكة أم كلثوم المحافظة، والثانية سكة اسمهان الوهابية العصرية. وكانت فتحية احمد تجمع في صوتها وأسلوبها روح القرن التاسع عشر الاصيلة الذي مثلته منيرة المهدية، وتهذيب وتطور القرن العشرين الذي أرسته أم كلثوم في غنائها وتطوره. كذلك نور الهدى التي شغفت بمحمد عبدالوهاب وبفتحية احمد معاً، كانت سبيكة خاصة جمعت من جمال المدرستين معاً. فكانت أشبه بمطربة أخذت خامة الصوت من فتحية وسكبتها في غناء على طريقة أسمهان. فلما أضيفت الى هذه العناصر الثمينة حساسية متفوقة، وجمال عُرب نادرة، كان لا بد من ان ترتقي هذه الفتاة اللبنانية الخجولة أعلى مراتب الفن العربي في القرن العشرين، فتصدرت مع فايزة احمد وليلى مراد الصف الثاني في المطربات العربيات بعد ام كلثوم وأسمهان. وبعدما عادت الى لبنان سنة 1953، مثلت وغنّت في فيلم لبناني هو "لمن تشرق الشمس" 1958. وعلى الرغم من ان نور الهدى ظلت تسجل وتغني في لبنان غنّت مثلاً أغنيتين رائعتين من تلحين خالد ابو النصر وشعر زيادة عواد: بوليرو ليلى، وتانغو الأمل، أصدرتهما مؤسسة "صوت الشرق" في اسطوانتين مدمجتين السنة الماضية، الا ان خلاصة عملها الممتاز تركزت في افلامها الغنائية، التي تضمنت فيلماً مع محمد عبدالوهاب، واثنين مع فريد الاطرش ما تقولش لحد وعايزة اتجوز واربعة مع محمد فوزي غرام راقصة وقبّلني يا أبي ومجد ودموع ونرجس. ولحّن لها محمد القصبجي في سبعة أفلام على الاقل من أجمل افلامها الغنائية. في هذه الافلام أجمل الاغنيات التي غنتها نور الهدى ومنها: شبكوني ونسيوني، ما تقول لي مالك محتار، الدنيا ساعة وصال محمد عبدالوهاب، يا طول عذابي، قيدوا الشموع، ياللي تحب الفل محمد القصبجي، يا أوتومبيل يا جميل، يا ريت كل الناس فرحانة رياض السنباطي، يا ساعة بالوقت إجري، إن جيت للحق فريد الأطرش، إيه يا ترى حاشوفه تاني محمد فوزي، جوّ عينيك سر مخبّيه محمود الشريف. قالت نور الهدى في لحظة صدق من أندر اللحظات ان الرجل الوحيد الذي قبلها في فمها كان محمد عبدالوهاب. ولعل هذا الفم الذي شدا بتلك البحّة الدافئة والحساسية الانثوية الدافئة، ما كان يجب ان يقبله غير... محمد عبدالوهاب