قبل مجيئه الى باريس لتقديم شريطه الجديد "الرجل ذو القناع الحديدي"، بعث لي ليوناردو دي كابريو عبر البريد الالكتروني رسالة مقتضبة تقول بالحرف: "عزيزي المعطي، سأصل باريس بعد ايام وأود رؤيتك. سأخابرك لدى وصولي". طبعٌ رهيف، وخاطرٌ صقيل! أعرف ليوناردو لما كان عمره ستة عشرة سنة. كان في رفقة والدته في زيارة الى مراكش. صادفتهما على مشارف حي سيدي يوسف بن علي، وهو حي شعبي، وقد ضلا طريقهما الى فندق المامونية، وعَصَر محياهما قيظ المدينة. كنت عائداً من صيد الافاعي التي تزخر بها المدينة. في الوقت نفسه الذي مكّنتني هذه "المهنة" من تغطية حاجيات الدراسة، أكسبتني بعض الشهرة لدى ممثلي بعض المختبرات الصيدلية، وبخاصة منها الالمانية، التي اوفدت صحافياً في مجلة "دير شبيغل"، اجرى تحقيقاً وافياً عني في عنوان "العسل في السم". في عربة "الكوتشي" التي حاذت اسوار المدينة، فيما كنت افسّر لمدام دي كابريو ما قاله ابن سينا في موضوع سُمّ الافاعي وفضائله العلاجية على جسد الانسان، كان ليوناردو، وتسمّيه امه ليوني، يضع الصندوق على اذنه لينصت الى حثيث الافاعي بداخله. لما فاتحتني والدته في حس المغامرة الذي يُميّز ابنها، عرضت عليها للتو أن تسمح له بمرافقتي في احدى الجولات. - "الافاعي Yes... Yes.." ورتب شاكراً بسلسلة قبلات على خدّ والدته. ما بين ما يُروى عن فندق المامونية ورؤيته، فرق ما بين السماء والارض. شعرت، وأنا الى جنب ضيوفي الجدد، انني عار تماماً، لشدّة بهرجة الانوار ودسامة الخضرة ونعومة الزوار والديكور.. وللتوّ، تذكّرت قولة تكرّرها والدتي صباح - مساء: "قبّح الله الفقر - والفقراء - من امثالك!"... لكن اشد ما اثارني هو صفاء ماء المسبح، فيما تعوّدت على الغطس في الماء الداكن للمسبح البلدي الذي يتخلّى فيه البؤساء مثلي من اوحالهم مرة في الاسبوع! غادرت الفندق بخفّيْ حنين بعد ان لعقْتُ ايس كريم بعبير الكاكاو، اهدته لي مدام دي كابريو. وفي الغد، وكنت برفقة ليوناردو، استقبلني بعض اصدقاء المهنة بتعاليق على الطريقة المراكشية من نوع: "كنا نحسبك تصطاد الافاعي لا الغزلان"، "انقلبت الآية يا المعطي وستفوز بالغنيمة..." الخ... ولما يستفسرني ليوناردو عن ضحكاتهم المتواصلة، كنت اجيبه بأنهم يخافون عليه ان يذوب تحت قيظ مراكش مثلما يذوب الشمع! لكنه كان ينفخ صدره وعضلاته لتبيان انه متين الخلقة. وقصّ علينا ونحن مجتمعين من حول سدرة شبه عارية رحلته الى ما اسماه بجحيم التكساس، حيث تقارب الحرارة 54 درجة مئوية! وأعترف ان الفتى أبان عن مهارة نادرة في اصطياد الافاعي. وفي استجواباته العديدة، بعد ان تحوّل اليوم الى اسطورة حيّة، لم يشر البتّة الى براعته في اصطياد الحيات! غادرا المغرب بعد ان طُفت بهما ارجاء المدينة ومن دون ان اتمكّن من دعوتهما الى تناول وجبة كُسْكسي على الطريقة المراكشية، اي كُسْكسي بالخضر السبع! وبقي الاتصال حياً بيننا، حتى بعد مغادرتي للمغرب. بعثتْ لي مدام دي كابريو حزمة صور تذكارية: ليوناردو في ساحة جامع الفنا ومن حول عنقه ثعبان نسميه بالثعبان الزحّالي المعروف بلدغته القاضية، وأطلق عليه صيادو الثعابين مايك تايسون. في لقطة اخرى، يشاهد ليوناردو وعلى كتفه قرد يطلق عليه المراكشيون اسم "سويسا" ويعتبر محط حكايات كثيرة منها انه حفيد لقرد كان يُقاسم ونستون تشرشل، في فندق المامونية، مائدة الاكل وفسحاته في بساتين الفندق... في رسائلها، لم تشر مدام دي كابريو، ولو مرة واحدة بأن ابنها مثّل وهو في التاسعة من عمره في اشرطة تلفزيونية او انه يسعى الى ان يصبح نجماً سينمائياً. ويوم قامت القيامة من حول شريطه "تيتانيك"، الذي لم تتسنّ لي بعد فرصة مشاهدته، هتفت الى مدام دي كابريو لأهنئها. وقالت لي ان "ليوني" لا يزال يذكرك، ويود لقاءك في باريس. وبالفعل خابرني ليوناردو وفي المساء. لما اخبرت زوجتي بالنبأ، ضحكت الى ان تمكّن منها السعال: "اتقِ الله يا رجل. تكذب مثلما تتنفّس! وإنني خائفة على صحتك الذهنية". التقيت سالمة منذ خمس سنوات في حفلة الراي للشاب مامي. غنينا معه الغربة ورقصنا للتخلص من اثقال الاسى. الى البهاء العربي، تمتاز سالمة بذكاء ثاقب" وهذا ما يفسر نجاحها مهنياً، بحيث تشغل منصباً محترماً في احد دور النشر. بعد زواجنا، خططنا لمشاريع كثيرة، لم ير معظمها النور. والحق عليّ. "اليوم ليوناردو دي كابريو، وغداً؟ هل سنستضيف كوفي أنان ليفضّ النزاع الذي ما انفك يستفحل بيننا؟ طُردت من العمل، رغم انك حامل لشهادة في الالكترونيات. وتقضي معظم وقتك امام الكومبيوتر لفك رموز الكلمات المتقاطعة، او امام التلفزيون متنقّلاً من قناة الى اخرى. والآن تخبرني بأن دي كابريو سيكون ضيفاً علينا في وجبة كُسْكسِي؟ فليكن. سأهيّئ كل شيء. لكن اطلب منك شيئاً واحداً: ان تأخذ صوراً معه! ستُسلّط عليك الاضواء، ونخرج من محنتنا. هيّا قم وسنرى طول حبل كذبك!". بعد ساعة ونصف كان البيت جاهزاً والعمارة تعبق برائحة الكُسْكسِي، الذي تسبّب لي غير مرة في خصومات مع بعض الجيران الذين اشتمّ فيهم رائحة جان ماري لوبان! في حدود التاسعة والنصف لا ذكر لدي كابريو. "مرة اخرى سخرت مني. لكنها الاخيرة". اخذت سالمة حقيبتها وغادرت البيت قاصدة ضاحية بوبيني حيث تقيم عائلتها. وفي الحادية عشرة والنصف وأنا اشاهد نشرة الاخبار امام صحن كُسْكسِي، ظهر ليونردو دي كابريو رفقة الممثل الفرنسي جيرار دو بارديوه في مقهى "بلانيت هوليوود"، وأمامهما اطباق لرقائق البطاطس والهامبرغر، وكل منهما يكيل المديح للآخر على ادائه في شريط: "الرجل ذو القناع الحديدي". "طفّشت" الصورة وانتقلت الى القناة المغربية الاولى، حيث تمتعت الى ساعة متأخرة بالهزات المكتنزة لراقصات خريبكة المعروفة بأصواتها المبحوحة وقدراتها على مصالحة الروح مع نفسها! لكن في حدود الثالثة صباحاً، الواحدة حسب التوقيت المغربي، اهتز الباب تحت دقات البوليس الذي ناداه الجيران تبرّماً من الصخب ورائحة الكُسْكسِي!