معرض الفنان السعودي فيصل السمرة الأخير في صالة عرض "مسافة" يدفعنا مرة أخرى للسؤال عن أسباب التجديد التشكيلي عند هذا الفنان. ذلك أنها أسباب تنحو، معرضاً تلو معرض، الى توليد البحث التشكيلي من جديد، غير عابئة بما يحوط العمل الفني من محددات محلية في التجارب التشكيلية السارية، أو من متطلبات ذائقة فنية في "السوق"، أو من "سوابق" في مسيرة الفنان نفسها. والناظر الى أعمال السمرة قد لا يتعرف على هوية صاحبها، حدساً وتخميناً أو اعتياداً عليها، ذلك أنها أعمال مخالفة أو لا تستعيد ما سبق للفنان أن باشر به، إلا أن الناظر نفسه، المتردد إذا جاز القول، لا يتردد أبداً في اعتبار الأعمال المعروضة اعتباراً فنياً وجمالياً لافتاً، ذلك أنها تمتاز بمواصفات في الصنع والحاصل الفني جديرة بالتثمين. فما الأعمال هذه؟ يقتصر معرض الفنان الجديد على عشرات االأعمال الصغيرة، التي أطلق عليها اسم "أيقونات"، في التفاتة فنية تومىء الى تراث فني قديم، من جهة، وتنزع عن الماضي هذا، من جهة ثانية، تاريخيته الجامدة لتفتحه على هواء التاريخ الحي. وهي علاقة نقدية وطريفة بالماضي تذكرنا بالعديد من المحاولات، الفنية والأدبية المختلفة، التي تتصل بما يسمى نزعات ما بعد الحداثة. الأعمال مفاجئة في صنعها، إذ تقوم على إنتاج عمل فني مختلف، لا في مواده، أو تخطيطه، أو معالجاته وحسب، وإنما في بنائه المادي أساساً. فما يمثل أمام أعيننا فوق الجدران الأربعة في صالة العرض مجموعة من الأيقونات المعاصرة، وفق تصوير بل إعداد السمرة لها إعداداً مادياً، يقربها من نسق الصورة، لكنه يبعدها عن نسق اللوحة أو حتى الأيقونة بمعناها الديني بوصفه حامل الصورة البشرية الفنية. الأعمال صغيرة القياسات 20 سم في كل جهة، وفق بناء مربع، وإن كانت خطوط جهاته الأربع غير دقيقة، إذ يخرج العمل أو يتعدى الحدود الدقيقة للمربع البلاستيكي الذي يعلوه مثل الزجاج لقماشة اللوحة الزيتية. فالسمرة ينطلق من اللوحة الزيتية إلا أنه يخلخل قواعدها المستقرة: يعلق العمل على جدار، وله بناء يناسب الجدار كذلك، عدا أنه يقيه بعازل لا يعرضه بالتالي للتفتت، الى غير ذلك من المواصفات، في الصنع والتلقي البصري، التي تقرب العمل الفني المنتج من صناعة اللوحة الزيتية. ومع ذلك فالسمرة يبتعد عن نسق اللوحة، أو يجعله مجالاً للعب: فهو يتخلى عن القماشة لصالح مواد أخرى، وعن الإطار الخشبي إذ أن العمل الفني لا يمتلك في حدوده اخحارجية شكلاً مستقيم الجهات، كما قلنا، الى غير ذلك من التلاعبات التي تظهر لنا علاقات حيوية، مطلوية ومرغوبة، باللوحة والصورة، تاريخاً ورموزاً. يعود السمرة، في التفاتة تاريخية، الى ماضي اللفظ اليوناني المنقول الى العربية، "أيقونة"، الذي يدل على معنى الصورة وحسب، مجرداً من أية صفة، دينية أو قدسية أو غيرها. يعود، إذن، الى ماضي اللفظ، بل يحرره من معانيه المتحققة في التجربة التاريخية، ويستقيه طرياً، إذا جاز القول، من جداول الألفاظ والدلالات. وتشبه حركته هذا ما سبق اليه رولان بارت غيره، حين تعامل مع كثير من "عروض" القرن العشرين من الملاكمة الى كرة القدم مروراً بالسيارة أو بطبق الأكل، في كتاب "أسطوريات"، بوصفها من "التمثلات الجماعية"، أي بوصفها منتجة صور وفق "لغة" أو بناء نصي ما: تعامل معها ودرسها على أنها "أساطير محدثة"، أي الصور والتمثلات التي تخلب لب المتفرج، وتختصر صور الواقع أو تستبدله. ففي مسعى بارت ما يعرِّض الصورة، ولا سيما في تمثلها الاجتماعي، للنقد والمراجعة، أي ما يتناول الصلات الناشئة بين الصورة المنتجة ومجموعة الوقائع التي تنطلق منها. هذا ما سعى اليه السمرة بدوره، إذ جعل من "نجوم" عديدين، من صورهم بالأحرى، مثل صور جمال عبدالناصر أو أم كلثوم أو فيروز أو أينشتاين وغيرهم، مجالاً لمعالجة تشكيلية، بوصفها أساطيرنا المحدثة، أو الصور التي تخطف أبصارنا. وهذا ما تناوله، في مسعى آخر، الفنان الأميركي أندي وارول، ولا سيما في تلاعبه بالصور الاستهلاكية المعممة، من صورة مارلين مونرو الى صورة زجاجة "الكوكاكولا". غير أن ما قام به السمرة لا يتعدى، أو لا يذهب بعيداً في الاستثمار التشكيلي لفكرة الأيقونة المعاصرة: فهو يكتفي بإيراد صورة عن هذا "النجم" أو ذاك، من دون أن يبدو فيها ما يغير، أو ما يجدد صورتنا اليهم. فصورة أم كلثوم - الصبية تحديداً - تعود الينا طبعاً في سياق مفاجىء ما اعتدنا عليه، إلا أنها لا تصدم عيننا أبداً، أو لا تدعونا لإقامة علاقات أخرى مع صاحبة الصورة، أو مع ما ترمز اليه. فبعد انقضاء النظرة الأولى، المفاجئة، التي ترينا هذه الوجوه الأليفة حيث لا نتوقع الوقوع عليها، لا يذهب بنا العمل الفني أبعد من ذلك. والسياق مفاجىء لأسباب أخرى، وهو أن العمل الفني منتج وفق طريقة مخصوصة لا يتحقق منها، أو لا يتبينها المتفرج، حتى الخبير. فمواد العمل مختلفة، منها الصلصال الذي يعالجه الفنان معالجات مخصوصة ينتهي به الى تضمينه مواد أخرى، بالإضافة الى اللون ومواد تلصيقية من قصاصات الجرائد القديمة وغيرها، عدا الزجاج والبلاستيك الشفاف أيضاً. هكذا تبدو الصورة المنتجة مصنوعة وموروثة في آن، من نتاج التاريخ والفنان في آن. وهو ما يقيم الصورة، ومعها العمل الفني، على علاقات مركبة تجمع بين عين المشاهد والصورة المجازية من خلال الصورة المادية. ولفظ "النجم" يوحي بما يقوله صراحة في هذا السياق، وهو أن أنوار الشهرة المحيطة بالشخص المنظور اليه تبهر بقدر ما تخفي، تعليه في أبصارنا بقدر ما تحجبه عنا واقعاً. وهي ألعاب إخفاء وإظهار: تخفي حين تظهر، وتبعد حين تقرب. وفي ذلك نتحقق من إمكان النظر الى هذه الشخوص الشهيرة على أنها أيقونات من صنعنا وهي بعيدة عنا، نتقرب منها فيما نحن صنعناها بأيدينا. وفي ذلك أيضاً وأيضاً أكثر من "غمزة عين" واحدة موجهة الى ما قامت عليه المعتقدات القديمة الخاصة بالأيقونة وبغيرها مما علق في المصنوعات البشرية من تبجيل وتعظيم وتبعيد، فيما هي نتاج البشر، وعلينا أن نرى فيها تحققهم من الجمال، العياني قبل الأخروي. غير أن ما يدعونا اليه السمرة يتعدى هذه الأعمال الأيقونية، إذ يعرض كذلك أعمالاً أخرى تظهر لنا تجريبه بالمواد المجبولة والمختلفة في صورة أقوى: فهو يدع اللون ينسال فوق القماشة وهي مشبوكة بمواد أخرى، ورقية وغيرها انسيالاً طبيعياً، ما يولد حركته العفوية، التي تتآلف مع غيرها وتخلِّف لنا سطحاً تصويرياً شديد الغنى والتوهج. عدا أننا نتأكد في هذه الأعمال القليلة من انصرافه الأقوى الى التصوير، ولا سيما في جانبه اللوني المحض، بعد أن أظهر في الأعمال الأيقونية مهارته التدبيرية في الصنع خصوصاً. نتحقق في هذا المعرض بعد غيره من هوس السمرة بالشكل، بصناعة الشكل، بتجديد النظر الى إطار العمل الفني، والى صنعه المخصوص، قبل اهتمامه بمضامين العمل الفني أو رموزه أو إشاراته القيمية والاجتماعية. هو فنان صانع في المقام الأول، وهذا ما يتناساه فنانون عرب كثيرون، إذ يخالون العمل الفني "إنزالاًَ" أو ترجمة لفكرة أو لصورة فوق حامل مادي، لا إنتاجاً وصنعاً ولغة تشكيلية في المقام الأول. نتحقق في معارض السمرة المتلاحقة منذ معرضه الشخصي الأول في العام 1974 في الرياض، من كونه ينظر الى العمل التشكيلي على أنه نتاج "لغة" تشكيلية في المقام الأول. ونتحقق أيضاً، منذ معرضه الباريسي اللافت الذي أطلقه في ميدان الفن في صورة أكيدة، في العام 1989، من كونه يرى الى تجديد الشكل، الى تجديد المصنوع الفني نفسه، على أنه جهد الفنان الأساسي. وهو ما يفسر التغيرات المتعددة في معارضه الأخيرة، سواء في الرياض أو الكويت أو البحرين أو باريس، ولا سيما في مجموعتيه الأخيرتين، "نبطيات" و"منمنمات معاصرة"، اللتين عرضهما في العام 1996