لن ينتهي الحصار المفروض على العراق في شهر تشرين الأول اكتوبر ولن ترفع العقوبات. في أفضل الحالات، وإذا لبت بغداد كامل متطلبات اللجنة الخاصة المكلفة بإزالة الأسلحة العراقية المحضورة اونسكوم وتعاونت كلياً بلا تحفظ أو تردد، يبدأ عندئذ البحث في "ميكانيزم" تنفيذ الفقرة 22 من القرار 687، وهذا يعني رفع الحظر النفطي فقط وليس إلغاء نظام العقوبات، لكن الوصول إلى مرحلة البحث في تنفيذ الفقرة 22 يشكل انجازاً بلا شك على رغم ما يستغرق تفعيل الفقرة من وقت قد يطول شهوراً. فإذا بدأ العد العكسي لرفع الحظر النفطي الخريف المقبل، فإنه لن يأتي نتيجة تغيير جذري في الأهداف الاستراتيجية للسياسة الأميركية، وإنما سيأتي حصراً نتيجة ازالة بغداد كل عرقلة أمام اللجنة الخاصة واثباتها بلا أي درجة من الشك أنها أكملت الكشف التام عن برامج الأسلحة المحظورة التي امتلكتها. وأي التفاف على ذلك سيؤدي إلى استمرار الوضع الراهن، والورقة الرابحة الوحيدة في أيدي بغداد هي ورقة التعاون الكامل مع "أونسكوم". تشرين الأول بات موعداً حاسماً في ذهن الكثيرين، أولاً لأنه موعد تقديم رئيس اللجنة الخاصة ريتشارد بتلر تقريره نصف السنوي إلى مجلس الأمن. وثانياً، لأن العراق يتوعد بحسم موضوع الفقرة 22 بمواجهة جديدة إذا لم يتضمن تقرير بتلر شهادة بنظافة العراق من الأسلحة المحظورة. هذا الموعد يُعطى حجماً أكبر منه، خصوصاً إذا سارت الأمور في الاتجاه السليم. فأولاً، وللدقة، ان تقديم بتلر تقريراً على أساس الفقرة 22 يفعّل ناحية رفع الحظر النفطي حصراً. أما بقية العقوبات، فإن رفعها خاضع لشروط أخرى لا علاقة لها بلجنة "أونسكوم". لذلك يخطئ من يتكلم عن تشرين الأول كموعد لرفع العقوبات عن العراق حتى وان قدمت "أونسكوم" التقرير المرجو. لكن هذا لا ينفي الأهمية البالغة لرفع الحظر النفطي خصوصاً أن النفط يشكل ركيزة الصادرات العراقية وحجر الأساس في تعافي العراق اقتصادياً وبنيوياً. ومن هنا تبرز خصوصية امتلاك لجنة "أونسكوم" ورئيسها ريتشارد بتلر المفتاح الرئيسي. السبب الثاني الذي يعطي موعد تشرين الأول انطباعاً ضخماً خاطئاً، أيضاً في حال تطورات ايجابية، يعود إلى الافتراض بأن تقديم بتلر تقريره على أساس الفقرة 22 يعني رفع الحظر النفطي اوتوماتيكياً. الصحيح هو أن مجلس الأمن وليس لجنة "أونسكوم" الطرف الذي يتخذ قرار رفع الحظر النفطي بعد تسلم التقرير. وهذا يعني اتخاذ القرار السياسي برفع الحظر. والسؤال يصبح: هل ستكون الولاياتالمتحدة على استعداد لاتخاذ قرار سياسي برفع الحظر النفطي عن العراق؟ إذا وصل مجلس الأمن إلى مرحلة تسلم تقرير التبرئة من بتلر على أساس الفقرة 22، ستواجه الإدارة الأميركية نوعاً من التصادم بين الموقف القانوني والموقف السياسي. فالفقرة 22 واضحة في الربط بين رفع الحظر النفطي وبين استكمال أعمال اللجنة الخاصة، أي الانتقال من مرحلة نزع السلاح إلى مرحلة الرقابة والرصد المستمرين لبرامج التسلح العراقي ومراقبة الواردات ذات الاستخدام المزدوج. لكن الولاياتالمتحدة وبريطانيا أقحمتا في الماضي شروطاً أخرى على تنفيذ الفقرة 22 مما لاقى معارضة الدول الأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، فرنساوروسيا والصين، التي اعتبرت القرار 687 عقداً قانونياً لا يجوز الاخلال به لأسباب وغايات سياسية.ضمن أهم ما أنجزه العراق في الأشهر القليلة الماضي يدخل في خانة وضوح ارتباط الفقرة 22 بناحيتي الأسلحة والنفط من دون غير. فالمسؤولون الأميركيون لا يتحدثون، في هذا المنعطف، عن الشروط الأخرى، مثل ملف الأسرى والمفقودين وإعادة الممتلكات الكويتية وإثبات النيات السلمية، كجزء من الفقرة 22. إنها شروط تطبق عند البحث في العقوبات الأخرى غير الحظر النفطي. فيوجد اليوم نوع من الاجماع بين اعضاء مجلس الأمن على وضوح الفقرة 22. وبالتالي توجد مساحة ما للمرونة من طرف الولاياتالمتحدة في مسألة تنفيذ الفقرة 22. هذه المرونة لن تتجسد بالتساهل في شروط تفعيل الفقرة. فالشروط لا تزال قاطعة وهي، في رأي المسؤولين الأميركيين، كافية لاستبعاد أي تغيير في نظام العقوبات في المستقبل القريب. وإذا كانت اللجنة الخاصة غيّرت بعض أساليبها في التعاطي مع العراق، فإنها لا تزال جوهرياً تتحدى بغداد بنمط مطالبتها بإثبات أنها كفت عن الاخفاء والتضليل، وبغضها في آن. وفي حال تلكؤ لجنة "أونسكوم"، أو في حال احتياجها إلى مساعدة، ان واشنطن على أهبة الاستعداد لتسريب أنباء تدق مسماراً تلو الآخر في المزاعم والاستراتيجية العراقية. وكمثال، سربت واشنطن معلومات أخيراً إلى صحيفة "واشنطن بوست" أفادت أن مختبراً تابعاً للجيش الأميركي قام بتحليل رؤوس حربية للصواريخ العراقية بطلب من اللجنة الخاصة، استنتج ان هناك أدلة على قيام العراق بوضع مادة VX من الغاز الكيماوي في الرؤوس الحربية قبل 1991، مما يناقض مزاعم الحكومة العراقية بأنها لم تصنّع هذا السلاح. وحسب الصحيفة، فإنها حصلت على نسخة من تقرير المختبر من "المؤتمر الوطني العراقي" المعارض الذي يترأسه أحمد الجلبي. وهذا في حد ذاته أثار عاصفة احتجاج من الحكومة العراقية، اعتبرت أن تسريب مثل هذه الوثيقة إلى الجلبي يفقد اللجنة الخاصة صدقية العمل المهني والعلمي. المهم، ان موضوع الساعة بات مسألة VX ليس فقط بسبب احتمال اخفاء بغداد هذه المادة السامة والاحتفاظ بها، وإنما أيضاً لأن نتائج المختبر تفضح بغداد وتضرب صدقها وصدقيتها إذا ثبت ما توصل إليه المختبر. بغداد، من جهتها، تحركت لدحض النتائج وتصرفت بثقة متناهية، إذ أنها طلبت إلى روسياوفرنسا أن تقوم مختبراتها بالتحليل لتثبت عكس ما زعمه المختبر الأميركي. والمغامرة واضحة. فإذا كانت السلطات العراقية واثقة بأنها لم تصنّع هذه المادة، وإذا كانت روسياوفرنسا على استعداد للدخول في معركة تتعدى المختبر مع الولاياتالمتحدة، وإذا أسفرت النتائج عن تبرئة العراق، سيأتي العبء على واشنطن واللجنة الخاصة، أما إذا كان المختبر الأميركي توصل إلى نتائجه علمياً، وهو واثق منها، فإن التطور يشكل ضربة جذرية للاستراتيجية العراقية وانحساراً رئيسياً في قائمة الانجازات التي حققتها بغداد في الأشهر الأخيرة. جردة سريعة للانجازات تثبت أن بغداد سارت شوطاً بعيداً في طرح ملفها دولياً. فيوجد اليوم توظيف فعلي للانقسام في صفوف أعضاء مجلس الأمن بما يخدم العراق، مثل توضيح الفقرة 22، وبدء الاستماع إلى الطروحات العراقية مقابل طروحات اللجنة الخاصة، وإدخال الشفافية إلى أعمال "أونسكوم" إلى جانب محاسبتها أمام المجلس. يوجد أيضاً توجه نحو تحدي معنى وعملية تنفيذ العراق لما يُطالب به مئة في المئة، كما يوجد تعدد جنسيات في فرق التفتيش وفي الفرق والمؤسسات العلمية مثل توزيع المواد على مختبرات روسية وفرنسية كي لا تبقى في أيادٍ أميركية وبريطانية. فهيكلية "أونسكوم"، كما طبيعة عملها، تغيرت بما فرض عليها التأقلم مع واقع جديد. يوجد تحول مهم في التركيز السياسي والاعلامي من الانصباب على ما تقوم أو لا تقوم به بغداد إلى الحديث عن افرازات العقوبات على العراق والبحث في الأجندة الأميركية. يوجد ممثل خاص للأمين العام في بغداد، كما اهتمام بالتداخل في المناخ الاقليمي والدولي في تقويم حاضر ومستقبل العراق. يوجد رقيب على بتلر ليس فقط في هيئة مجلس الأمن، وإنما أيضاً في هيئة الأمين العام والأمانة العامة. يوجد قدر مهم من تعقيد خيار استخدام القوة العسكرية. وأخيراً وليس آخراً، يوجد نوع من التحول في السياسة الأميركية، رغبة أو اضطراراً، على صعيد ما يسمى "اغلاق" ملفات التسلح النووي والبيولوجي والكيماوي والصواريخ. فالإدارة الأميركية، كما "أونسكوم"، عارضت فكرة نقل الملفات "تدريجاً" من مرحلة نزع السلاح إلى مرحلة الرقابة الدائمة. ثم عادت ووافقت عليها. وجاءت تصريحات السفير بيل ريتشاردسون المكررة التي سجلت الاعتراف بما تم انجازه في الملف النووي وفي مسألة دخول المواقع الرئاسية بسبب التعاون العراقي، جاءت لتثبت نقلة مهمة في السياسة الأميركية نحو العراق. هذه الانجازات ليست بسيطة وفي إمكان أقطاب الحكومة العراقية التباهي بها. الخطر يكمن في احتمال افتراض هذه الأقطاب ان هذه النتائج جاءت نتيجة تحريك الملف بتحد وباختلاق مشكلة تلو الأخرى كما حدث في خريف السنة الماضية وشتاء هذه السنة عندما اتخذت بغداد اجراءات استفزازية أو عقابية على نسق طرد الأميركيين في فرق التفتيش. صحيح ان نمط التحدي فرض على الطاولة ملف العقوبات. وهذا مهم. إنما الصحيح أيضاً أن النتيجة النهائية، كانت الوساطة الروسية أو انجاز الأمين العام كوفي أنان في اتفاقه مع العراق في 23 شباط فبراير الماضي، تضمنت تراجع العراق عن مواقفه التصعيدية. بغداد تلمح اليوم بأنها ستفجر أزمة جديدة في تشرين الأول اكتوبر إذا تراجع ريتشارد بتلر عن نمطه الجديد الذي أطلقه في بغداد والذي اختارت بغداد أن تعتبره تعهداً بتفعيل الفقرة 22 إذا لبت مطالبه المدونة في "خطة العمل" التي اتفق عليها. ومن الآن وحتى ذلك الموعد، ستقوم السلطات العراقية بشن هجوم ديبلوماسي في الأممالمتحدة، وفي مؤتمر قمة عدم الانحياز في أواخر آب اغسطس في جنوب افريقيا، ومع المعنيين والراغبين في تحقيق عزل الولاياتالمتحدة داخل مجلس الأمن وعلى الساحة الدولية. المهم لبغداد أن لا تنساق لاغراء التلذذ بما تعتبره انتصاراتها. فالانجازات محطة والطريق طويل، وإذا كان له أن يوصل إلى رفع الحظر النفطي، فإن خريطته تبقى التنفيذ والتعاون والانصياع واتخاذ القرار الصادق بالرضوخ لواقع تدجين العراق. صحيح ان ريتشارد بتلر وجماعته في اللجنة الخاصة يتصرفون بقلق واضح، يتهربون من الصحافة العربية وينكبون على الاعلام الأميركي، كأنهم طرف في عداء. إنما هذا لا يعني أبداً ان المفتاح إلى رفع الحظر النفطي انتقل من أيادي اللجنة الخاصة إلى أيادي العراق. المفتاح بين أيادي الطرفين. فلا اللجنة عادت تمتلكه قطعاً وتضعه في خزينة دهاليز مكاتبها وخبرائها، ولا العراق وحده قادر على استراق المفتاح من دون موافقة اللجنة. اللعبة معقدة ودقيقة ومدهشة في تفاصيلها وفي تداخل وتباعد اللاعبين الأساسيين، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة. اطر الأهداف الاستراتيجية في السياسة الأميركية نحو العراق لا تزال تقوم على احتواء النظام وعلى النظر إلى العقوبات من ناحية السوط الذي يمنع العراق من استرداد أية مكانة في ميزان القوى الاقليمية. التكتيك قد يختلف، إنما الاستراتيجية قائمة اعتباطية على عاداتها. فأميركا ليست جاهزة اليوم لإعادة تعريف سياستها بما يقتضيه اهتزاز ركينة هذه السياسة المتمثلة بالاحتواء المزدوج للعراق وإيران. ولهذا يوجد مزيج غريب من الاستراتيجية والاعتباطية في المواقف الأميركية نحو العراق. وقد تكون هذه لعنة على العراق، إنما قد تكون أيضاً فرصة لبغداد لقلب المقاييس وفرض سياسة جديدة على واشنطن يمكن أن تصبح في مصلحة العراق