تكتيك القيادة العراقية الذي يعتمد اليوم التصعيد أداة لإحداث تغيير في منهج تعاطي مجلس الأمن مع الملف العراقي، يخاطر باستراتيجية لبغداد قائمة على دور مميز يقوم به الأمين العام كوفي انان لإحداث نقلة نوعية في العلاقة بين العراقوالاممالمتحدة. وإصرار العراق على قطع التعاون مع اللجنة الخاصة المكلفة إزالة الأسلحة العراقية المحظورة أونسكوم في مجال المراقبة البعيدة والرصد والتحقيق الدائمين لبرامج التسلح العراقي هو بمثابة عبور الخط الأحمر بما لا يسمح لأية دولة صديقة أو متعاطفة الدفاع عنه، بل يجبرها على الالتحاق في خندق محاربته. فإذا كانت القيادة العراقية تدرك هذين البعدين كما تعرف مدى تقويض تصعيدها لأهداف تحقيق رفع العقوبات، لا بد ان في ذهنها نمطاً ومردوداً مدروساً لما تفعله يأخذ في حسابه كل المعادلات بما فيها معادلة ضربة عسكرية اميركية شبه مضمونة. فالقيادة العراقية كسبت كثيراً في الأشهر العشرين الماضية من أسلوب التصعيد، وهي اليوم إما تراهن على تلك المكاسب لتحقيق المزيد، أو تراهن بها لأنها تغالي في ثقتها بنفسها وتفرط في مغامرتها. فالإجراء الأخير ليس عشوائياً ولا اعتباطياً. انه هجوم دفاعي قد يخطئ الحسابات أو قد يحسنها. وبغداد التي هي بتلك الدرجة من الثقة بالنفس في هذه المرحلة، مزاجها المغامرة. خلفية التصعيد الأخير لها عنوانان رئيسيان: "أونسكوم" والعقوبات. والقيادة العراقية أرادت تحجيم اللجنة الخاصة التي تمتلك مفتاح رفع الحظر النفطي عن العراق، وأرادت فرض مسألة رفع العقوبات على طاولة مجلس الأمن. لذلك اتخذت بغداد في 5 آب اغسطس قرار وقف التعاون مع فرق التفتيش التابعة لپ"أونسكوم" في أعقاب زيارة لرئيسها التنفيذي السفير ريتشارد بتلر الى بغداد تميزت بعزم القيادة العراقية على "تقليم أظافره". وجاء ذلك بعدما كان بتلر تحدث عن "خريطة طريق" تؤدي الى الانتهاء من مهمات نزع السلاح، اذا تعاون العراق كلياً، وتؤدي بالتالي الى تفعيل ملف رفع الحظر النفطي. الا ان بغداد أعلنت أنها خريطة تضليلية غير صادقة. برزت، مباشرة بعد قرار وقف التعاون، قضية التعاون الاستخباري بين اللجنة الخاصة واسرائيل في اعلانات وتصريحات المفتش الاميركي سكوت ريتر الذي قدم استقالته احتجاجاً على ما وصفه بتهاون الاممالمتحدة مع العراق وتغيير في السياسة الاميركية بعيداً عن خيار عسكري بدعم "أونسكوم" في مواجهة بغداد. وتبع ذلك تأكيد للعلاقة الاستخبارية المتطورة في عدة مقالات أبرزها مقالة في "واشنطن بوست" سجلت تفاصيل بدء "أونسكوم" بتبادل المعلومات مع اسرائيل، وليس فقط حصولها على معلومات منها. كوفي أنان الذي حقق انجاز توقيع مذكرة التفاهم مع نائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز في شباط فبراير وتفادى بذلك أزمة عسكرية، وجد في تأكيد العلاقة الاستخبارية أذى كبيراً للامم المتحدة وإحراجاً باهظاً للجنة الخاصة، فتحرك مع مجلس الأمن مقترحاً مراجعة شاملة للعلاقة مع العراق هدفها الاقرار بما تم انجازه نتيجة التعاون مع بغداد، وفرز ما تبقى بوضوح ضمن اطار زمني معقول كي تنفذ بغداد ما عليها وتبدأ المسيرة نحو رفع العقوبات. وكان في ذهن انان البناء على ما انجزه في مذكرة التفاهم، الذي بات نصراً سياسياً له وللامم المتحدة، وكذلك انقاذ سمعة الاممالمتحدة من الوصمة الاستخبارية واعادة العراق الى طريق التعاون على اساس ان المراجعة الشاملة تبدأ فقط بعد إلغاء قرار 5 آب اغسطس. مجلس الأمن اعطى الأمين العام في قرار رسمي صلاحية بلورة أفكاره وتقديم عناصر المراجعة الشاملة. وهكذا فعل بعدما أجرى مشاورات مفصلة مع اعضاء المجلس وطارق عزيز. الجانب العراقي وجد في ورقة الأمين العام التي احتوت عناصر المراجعة الشاملة غموضاً سيما لجهة مدى استعداد مجلس الأمن للالتزام بهذه العناصر وتطويرها، فتقدم بمذكرة استفسارات من تسع نقاط، عالج بعضها كوفي انان ووجد ان بعضها الآخر ليس ضمن صلاحيته، فأحالها الى مجلس الأمن. وعند ذاك بدأت بوادر فشل اقامة المراجعة الشاملة لما تطلبته التفسيرات من ايضاح مواقف سياسية جذرية. أبرز هذه المواقف يتعلق بالفقرة 22 من القرار 687 التي ربطت بين رفع الحظر النفطي وبين استكمال العراق تنفيذ كل متطلبات "أونسكوم". بغداد سعت وراء التزام واشنطن بتحييد هذه الفقرة عن بقية المطالب الأخرى، وبالموافقة على تفعيلها حالما تعلن "اونسكوم" انها أنهت مهمات نزع السلاح وانها راضية عن نظام الرقابة الدائمة. واشنطن لم تكن في صدد اتخاذ مثل هذه السياسة التي كان لها ان تطلق موقفاً جديداً سيما على عتبة انتخابات رئيسية في معادلة الحزبين الديموقراطي والجمهوري، وفي خضم "الانياب" المكشوفة للجمهوريين للانقضاض على الرئيس بيل كلينتون لو ارتكب هفوة، فكيف إذا كان يعتمد سياسة جديدة "تهادنية" نحو صدام حسين؟ وعندما يتبين لبغداد ان الموقف الاميركي ليس في وارد السماح بذكر الفقرة 22 في رسالة المجلس الى الأمين العام، بدأت تشكك بمفعول المراجعة الشاملة ومردود تراجعها عن قرار وقف التعاون. وكان الفتيل الذي أطلق الشرارة ما قاله المندوب الاميركي السفير بيتر بيرلي في جلسة مغلقة لمجلس الأمن من ان الولاياتالمتحدة لا ترى ان هدف المراجعة الشاملة هو وضع تصور لرفع العقوبات عن العراق مقابل تنفيذه القرارات. ومع صدور رسالة رئيس المجلس، باسم كل اعضائه، على رغم ما تضمنه من فصل مرحلة مراجعة ملف التسلح عن الملفات الأخرى واشارات ضمنية الى رفع الحظر النفطي كما نص عليه القرار 687، وجدت القيادة العراقية ان استمرار غموض الموقف الاميركي المتعمد ليس في صالحها، فاختارت المواجهة لفرض ملف الفقرة 22 ورفع الحظر النفطي على الطاولة، وقررت وقف التعاون في عصب ما تعتبره الولاياتالمتحدة وأونسكوم اساسياً وفوق العادة، برنامج الرقابة البعيدة المدى. حسابات بغداد ان التصعيد هو سبيل لتمهيد الطريق الى رفع العقوبات. ورأيها ان مرحلة التعاون بلا اعتراف أو مقابل فات عهدها، وان التعاون الآن بات سلعة مقايضة في معادلة تطبيع العلاقات بين الاممالمتحدةوالعراق وفي معادلة الاستحقاقات. ومواقف بغداد وتصرفاتها توحي بأنها لا تخشى استمرار العقوبات على اي حال. إضافة الى ذلك، ترى القيادة العراقية ان في وسعها استيعاب ضربة عسكرية اميركية، وتراهن على وهن القدرة الاميركية على الاستمرار في الضرب الى ما لا نهاية. بل انها تعتقد ان تفعيل الخيار العسكري الاميركي يورط الادارة الاميركية بما يجعلها تعمل جدياً على تجنبه. وقراءة بغداد للخارطة السياسية الاقليمية والاميركية تفيدها بأن لا دعم للضربة العسكرية ذات معنى. وهي تقرأ في الملف الفلسطيني - الاسرائيلي ما يكفي لتفعيل المعارضة العربية، القيادية والشعبية، لاستخدام القوة ضد العراق. وأخيراً، وليس آخراً، ترى بغداد ان الوقت لصالحها في تفعيل التصعيد على اساسين رئيسيين: أولاً، ان اثبات العلاقة الاستخبارية بين "أونسكوم" واسرائيل يعزز قول العراق تكراراً ان هدف اللجنة الخاصة تسهيل التجسس لصالح اسرائيل كي تبقى موازين القوى في خلل، كما ان برنامج الرقابة البعيدة والرصد والتحقيق المستمرين يحولان دون استعادة العراق أية قدرة على معالجة ذلك الخلل في الموازين الاقليمية والتي ترجح كفة اسرائيل وتركيا وحتى ايران على حساب العرب. اما الرأي العام العربي فقد يتعاطف مع طرد المفتشين، طالما ان بقاءهم لن يؤدي الى رفع العقوبات عن شعب العراق. ثانياً، ان الموقف العراقي المطالب بإقرار مجلس الأمن بضرورة تنفيذه التزاماته بموجب الفقرة 22 موقف قانوني، لا سيما وان تفعيل تلك الفقرة مرتبط بتنفيذ بغداد كل طلبات "أونسكوم". وبالتالي فإن الموقف الاميركي الذي يبدو انه يتحامل على العراق ويتحايل على نص القرار ويتبنى الغموض سياسة لغاية في نفسه. كل هذه القراءات والاستنتاجات تبدو جيدة في اطار التكتيك لكنها ليست بالضرورة ذات فائدة للعراق على صعىد الاستراتيجية. وهنا بعض الأسباب: أولاً، ان حدوث ضربة عسكرية لن يكون بلا ضرر للعراق حتى وان فشلت أهدافها. وعلى أي حال فإن المؤسسة العسكرية الاميركية تخطط منذ زمن لضربة عسكرية تطال البنية التحتية للنظام لتشلها ان لم يكن للقضاء عليها. فتخفيض القوات الاميركية لا يعني انحسار التخطيط المتفوق، لا سيما ان الخرائط وضعت منذ حوالى سنة في انتظار استفزاز على نسق وقف التعاون مع برنامج الرقابة الدائمة. ثانياً، ان أسلوب التصعيد لفرض مسألة رفع العقوبات على الطاولة لا يعني رفع العقوبات. فهذا الهدف، اذا كان استراتيجياً وصادقاً وجدياً، يتم في اطار استراتيجية الهجوم الدفاعي القائم على التعاون الكامل مع اللجنة الخاصة لسلبها أية ذريعة تعطيل. ثالثاً، ان فرنسا وروسيا والصين المتعاطفة مع الطروحات العراقية لن تتمكن من الاستمرار في التعاطف ازاء ملف بخطورة وقف أعمال الرقابة البعيدة المدى. بل ان هذه الدول ستجد صعوبة فائقة في معارضة الخيار العسكري الاميركي اذا لم يجد العراق وسيلة للتراجع عن قراره. فالتصعيد يهدد بنسف قاعدة التضامن مع العراق داخل مجلس الأمن كما يرمي الأصدقاء في حضن الولاياتالمتحدة، اضطراراً، في أقل الاحوال. رابعاً، التصعيد المستمر ايضاً يهدد بالإطاحة بدور الأمين العام كوفي انان الذي حرصت بغداد على تهذيبه ليكون طرفاً عادلاً نحو العراق، ويشكل قناة تحاور وحوار بين العراقوالاممالمتحدة تمثلت في مجلس الأمن أو في "أونسكوم". خامساً، ليس في وسع القيادات العربية، وقد لا يكون في وسعها، مقاومة الضغوط الاميركية العارمة لا سيما وان المبرر هو انتهاك فاضح لقرارات مجلس الأمن. وبذلك سيساهم التصعيد في احداث هزة في الأرضية الاقليمية التي يتعاطف جزء كبير منها مع العراق. ان الاستراتيجية الواعية تتطلب ان يكون التصعيد تكتيكاً موقتاً وقصيراً ومدعوماً بپ"بشبكة أمان" تقي الاستراتيجية اذا طرأ خلل على التكتيك. شبكة الأمان العراقية الوقائية ليست ممتدة في محيط العراق وجواره. لذلك فإن مخاطر التصعيد تتعاظم. وعقلانياً، فإن منطق الاستراتيجية يفترض التصعيد مجرد وسيلة لتحقيق بعض الأهداف المعلنة التي ترافق تكتيك زيادة المعيار. المطالبة بإقالة السفير ريتشارد بتلر يجب ألا تكون جزءاً من الاهداف الحقيقية المرجوة، فلا رالف اكيوس الذي سبقه ولا الآتي بعده سيؤثر في صلب الموضوع، وهو ان لجنة "أونسكوم" مكلفة من قبل مجلس الأمن بتجريد العراق من أسلحة الدمار الشامل ووضعه تحت الرقابة الدائمة كي لا يتمكن من اعادة بناء وامتلاك هذه الأسلحة. لذلك، ان الإمعان في المطالبة بإقالة بتلر تؤذي طروحات بغداد ذات الصدقية والقانونية. وأبرز هذه الطروحات ضرورة التزام الجميع، بما في ذلك الولاياتالمتحدة، بقانونية وشرعية نصوص القرارات الدولية. وعنوان هذه المرحلة يحمل رقم الفقرة 22.