لغة المعمار هي الشكل والمجسم والصورة، ومجاله هو الحياة الإنسانية في محيطها المدني والبيئي، أما ملهموه وآسروه فالحاضر المعاش والمستقبل المرجو والماضي الماثل بآثاره وكتاباته ودروسه: تلك التي نجحت وخلفت أوابد ومبانٍ وتلك التي لم تتجاوز نظريات المنظرين واقتراحات المبدعين. ويحكم كوني مؤرخاً ومعماراً متابعاً على البعد لما يجري في الساحة المعمارية العربية، لفت نظري اتجاه سائد في العمارة العربية المعاصرة جعلني أقرر أن أتخذ منه مدخلاً لإبداء رأي نقدي يتعلق بالأسلوب الذي يقتفيه العديد من المعماريين العرب المعاصرين، وربما بعض المفكرين والفنانين العرب في مناح ثقافية أخرى، في تعاملهم مع التاريخ مضحين أحياناً بالنسبية التاريخية، وأحياناً بالمنهج، الذين قرروه هم أنفسهم، وأحياناً بالدقة والأمانة في الاستشهاد بالتاريخ نفسه في كتابتهم أو في مشاريعهم المعمارية من خلال استنساخهم لعمارة الماضي استنساخاً كاملاً واقحامهم اياها في عملهم مباشرة أو من خلال ادماجهم الحس التاريخي بالحس القومي العربي في تأويل انتاجهم المعماري وترميزه. بدءاً، لا خلاف على أن علاقة العمارة بالتاريخ علاقة حميمية وشبه عضوية، فهي من بين الهندسات إن صح أصلاً باعتبارها من ضمن الهندسات أقربها للفن في ارتباطها بالماضي وتعويلها عليه في عرضها لنفسها كتعبير عن تجربة واختزال لماضٍ وتشوف لمستقبل. وأنا بالطبع وبالاختصاص من دارسي العمارة في التاريخ وعلاقة العمارة بالتاريخ، ولكن أريد، ربما بشيء من المشاكسة ولكن أيضاً بكثير من الجدية، أن أطرح السؤال: أي تاريخ؟ وكيف تبنى هذه العلاقة بين العمارة والتاريخ؟ ولن أدعكم تحتارون طويلاً في التساؤل عن موقفي شخصياً، وهو موقف أجده معبراً عنه أدق تعبير في مدخل رواية الكاتب L.P. Hartley, The Go-Between: "The past is a foreign country, they do things differently there" أي "الماضي بلد أجنبي، انهم يفعلون الأشياء بطريقة مختلفة هناك. ومن هذه المقولة البسيطة والعميقة المغزى بكل ما تحمله من دلالات البعد والمغايرة والغرائبية واستحالة التماهي التام مع الماضي يمكننا أن نستخلص أن كل اتكاء على مفهوم مباشر للتاريخ في أي عمل ابداعي أو بحثي يفقده كثيراً من مصداقيته وعنفوانه وانتمائه لزمانه وحتى من تاريخيته. فلأوضح ما أعني: في البداية كانت العمارة ابنة بيئتها وزمانها تلقائياً وعفوياً. ذلكم كان الحال على الأغلب مع كل حضارات العالم القديم، وكذلك كان الحال في الحجاز على عهد الرسول: قليل لقاء مع العالم الخارجي وأقل من ذلك تلاقح وتبادل. ثم انداح العرب المسلمون خارج شبه جزيرتهم يحملون دينهم وكتابهم وعصبيتهم وتاريخهم، الذي اختزلته اخبارهم وشعرهم. وتلاقت الثقافات، وكما نهل العالم القديم من رسالة الإسلام، نهل المسلمون من شعوب العالم القديم تجاربها وابتكاراتها وأذواقها. وظهرت عمارة جديدة فيها من كل مؤثر خصال ولكنها نسيج وحدها. ولم يكن الهاجس التاريخي بذي بال في العصور الأولى: كل عمارة تختزل مجمل التجارب والارهاصات والذكريات التي يحملها مبدعوها ومتخيلوها وممولوها ومشاهدوها مع قليل مشاحنة وتمايز - اللهم ما عدا بعض الحالات النادرة التي استخدمت العمارة فيها كموئل ووعاء ايديولوجي تجمعت فيه التأثيرات المعمارية الموروثة التي أعيد احياؤها أو استنباطها كما حصل في فترة الصحوة القومية الايرانية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين مثلاً. ولكن الوضع بشكل عام كان أقل جدية: لكل عمارة امتدادها التاريخي الواضح والمحصور جغرافياً ومعنوياً وعقائدياً. ولم يكن الارتباط بالتاريخ موضع جدل وتمحيص، ربما لأن تحميل العمارة بالمعنى كان لم يزل مفهوماً ضمناً من دون كثير عناء، أو ربما لأن الكلمة، متلوة ومكتوبة ومنقوشة، كانت أكثر تعبيراً وبالتالي أكثر ازدحاماً بالمعنى في المخيال العربي/الإسلامي من الصورة أو الشكل أو الفراغ المعماري. وبقي الحال كذلك خلال كل العصور الوسيطة مع بعض أخذ ورد حتى ظهور الحداثة في أوروبا ابتداء من نهاية القرن الثامن عشر ودخولها لديارنا في القرن التاسع عشر من منبت غريب: جاءت وأدخلت معها الكثير، ثم حورت مما كان في ديارنا الكثير. وكان من ضمن ما أدخلته المفهوم القومي للتاريخ بكل عنجهيته واستئثاره بكل ما يدعيه لنفسه. وكذلك ادخلت الصورة المحملة بالتعبير لتنافس الكلمة في حملها للمعاني وشحنها للعواطف كما توجتها القريحة العربية لقرون عديدة. وتلاقى الاثنان - التاريخ القومي المصنوع والمتباهي والتعبيرية المرئية - في أكثر من مجال، وكانت العمارة منها. ومنذ تلك الفترة التي شهدت اهتماماً واسعاً بالتاريخ، خصوصاً التاريخ القومي الأوروبي المتعالي، ظهر تعريف واسع المضمون وفضفاض القالب للعمارة العربية - الإسلامية على أيدي منظرين أوروبيين من ضمن مجمل النشاطات الاستشراقية المختلفة. وكان هذا التعريف مبتوراً ومسيساً ومؤدلجاً منذ نشأته. فالعمارة في البلاد العربية - الإسلامية، كسلسلة فعالة خلاقة ومبدعة، قد حُذفت بكل بساطة من سلسلة تاريخ العمارة العالمية التي أصبحت في الحقيقة محصورة بالعمارة الأوروبية وامتداداتها المتخيلة والصحيحة عودة الى اليونان ومصر الفرعونية. ولم تأت هذه الخطوة دفعة واحدة، وإنما أخذت وقتاً وجهداً بحثياً تركيبياً - وتلفيقياً - كبيرين بلغا أوجهما في عصر الغزو الأوروبي لمعظم الأراضي الإسلامية وهيمنة الحضارة الغربية الحديثة على العالم كله وسيطرتها شبه الكاملة على كافة أوجه الانتاج الفني والثقافي فيه ابتداءاً من نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين. اعتباراً من هذا المنعطف الابستمولوجي، استعملت عبارة العمارة الإسلامية للدلالة بشكل رئيسي على انتاج معماري محصور ومحدد بالثقافة الإسلامية الدينية. واختُزلت المساهمات المعمارية والانشائية والعمرانية والزخرفية التي أنجزتها مختلف القوى الفاعلة اجتماعياً وسياسياً وإتنياً وتاريخياً في الحضارة الإسلامية الى ارهاصات تعبر عن جوهر الإسلام الديني أو الغيبي فقط، وهُمّشت الاندفاعات الفنية أو المعمارية المبدعة التي خالفت الأسس التي نُسبت، حقاً أم اعتباطاً، للإسلام، أو حُذفت كلياً من الخطاب المعماري الإسلامي بحجة أنها لا تُمثل التوجه العام للإسلام. وأخيراً عُمق حصر دراسة العمارة الإسلامية بالإطار التاريخي والحيز الجغرافي للإسلام - الذي فرضه أساساً إسقاطها من سلسلة تاريخ العمارة العالمية - أي بمعنى آخر أضحت العمارة الإسلامية عمارة الإسلام وحسب. أما على صعيد العمارة نفسها في العالم العربي والإسلامي الحديث. فبعد فترة طويلة من الانغماس في الخطاب المعماري الحداثي ذي الصفة الدولية اللاتاريخية، عاد الاهتمام بالتاريخانية في العمارة للظهور في العقود الأخيرة تحت تأثير كل من التيار العالمي لما بعد - الحداثة التي دعت للعودة الى الاعتماد على الانتماء التاريخي للمنشأ المعماري شكلاً ومضموناً وصعود مسألة الهوية الوطنية والقومية والثقافية الى سطح اهتمامات المنظرين والمعبرين والسياسيين العرب في نفس الفترة واندفاعهم المحموم للتعبير عنها شكلاً ومعنى. ولكن المنظرين والمعماريين العرب المعاصرين، على صدق عاطفتهم وحرارة رغبتهم، لم يأتوا بجديد لم يقله جهاراً كل مؤرخي العمارة الأوروبيين اعتباراً من القرن الثامن عشر وحتى سبعينات القرن العشرين، ويفترضه ضمناً كل المستشرقين الذين تصدوا أساساً لدراسة العمارة الإسلامية. فعمارتهم العربية - الإسلامية المعاصرة ما زالت حتى اليوم تتخذ تعريف العمارة العربية - الإسلامية الاستشراقي حجر الزاوية في مفهومها للانتماء التاريخي. وهي بذلك تغفل النظر في خلفيات هذا التعريف وارتكازه غير النقدي على أسس معرفية وتاريخية لا تعكس التطورات النظرية الحديثة في تجذير أي انتاج ثقافي ضمن بيئته التاريخية، فهو، أي التعريف المعتمد، قاصر مثلاً عن إظهار الخلفية السياسية لتطور مفهوم العمارة الإسلامية، وهو كذلك عاجز عن الدخول في تحليل تاريخي حقيقي للعمارة العربية - الإسلامية نفسها التي أعيد انتاجها على يد المدافعين عنها من المعاصرين كعمارة تعبر عن جوهر الإسلام الديني اللازماني، وفي هذا الكثير من الاجحاف بحق تاريخيتها وبحقنا نحن كمستعمليها ومحبيها الحاليين. ولن أتعبكم بالمرور على كل النماذج المعاصرة، وانما سأذكر بعضاً من أنجح المعماريين الذين اتخذوا في تعاملهم مع التاريخ المعماري اتجاهات شتى. فهناك بادىء ذي بدء التاريخانية الرومانتيكية ممثلة أولاً بعمارة المعمار المصري العبقري الراحل حسن فتحي، خصوصاً في مرحلة الخمسينات والستينات، والكثير ممن اقتفى خطه من بعده. وهناك التاريخانية التشكيلية، وممارسيها كثر، ولكنهم يتفاوتون في حساسيتهم التشكيلية ورهافة ذوقهم المعماري. فهناك مثلاً المعماري المصري الحساس عبدالواحد الوكيل نحات الأشكال التاريخية العربية - الإسلامية، خاصة الفاطمية والمملوكية منها. وصائغها في تشكيلات بديعة وإن كانت تفتقر للركيزة التاريخية الواضحة. وهناك مثلاً المعمار العراقي باسل البياتي الذي يترجم التاريخانية ترجمة راديكالية أو حدبة وشبه حرفية في أعماله وان كانت لا تخلو من الحساسية التشكيلية الناجحة. ولكن هؤلاء المعماريين العرب المعاصرين المبدعين تشكيلياً وبصرياً بحق لم ينجحوا فعلاً في تحرير العمارة العربية - الإسلامية المعاصرة من قوقعة خصوصية ثقافتها ومحدودية بيئتها المفروضة عليها. وفتحها على تاريخ العالم الفني والإبداعي كعضو مساهم وفعال وأساسي في التراث المعماري الإنساني المشترك. فهم، من خلال تأكيدهم على خصوصية العمارة الإسلامية في تحديدهم لتاريخانية عمارته. ومن خلال اعتمادهم على هيكلية تكرس كل ما افترضته التراتبية المتسلسلة لتاريخ العمارة الغربية، لم يتمكنوا بعد من اختراق أسار التبعية التقليدية المسيطرة على الانتاج الثقافي العربي المعاصر ككل وسبر كل التجارب المتوافرة لهم لكي يصوغوها صياغة عبقرية متفردة ثم يظهروها عمارة جديدة تخاطب الانسان وتدغدغ كيانه، أياً كان هذا الانسان ومن أي مكان جاء. إن هذا المنحى الإبداعي المأمول ليس بالبعيد. فهو قد بدأ يظهر في عمل قلة من المبدعين العرب الشباب الواعدين في مجالات غير مجال العمارة، كالرسم والموسيقى والسينما، تعلن أعمالهم من خلاله، من دون ضجيج ولا ضوضاء، عن ولوج بعض طلائع الخلق الفني العربي، في نهاية القرن العشرين، ساحة الثقافة العالمية وتعاملها معها من خلال عمليتي أخذ وعطاء مثمرتين من دون عقد نقص ولا تبجح أو كبرياء زائفة. * أستاذ مشارك في تاريخ العمارة ونظريتها ونقدها، معهد ماساشوستس للتكنولوجيا MIT في الولاياتالمتحدة الأميركية.