لا يذهب العربي المهتم بالشأن العام سواء الى ندوة فكرية او الى نقاش تلفزيوني في هذه الفضائيات التي تنتشر من حولنا، الا ويلاحظ ان العرب المتناقشين يقلبون انظارهم القلقة بحثاً عن حلول لما يلاقونه في حياتهم وعلاقاتهم السياسية المحلية والعالمية، وتتشعب عادة الاجتهادات وتضرب الامثلة وكثيراً ما يوافق العدد الاكبر على ان الترياق الناجع لمشكلاتنا الوطنية هو تبني الديموقراطية. ولم يعد هناك جدال على ان الديموقراطية هي الطريق والوسيلة لمواجهة الصعاب السياسية في مجتمعاتنا العربية، التي غالباً ما تحتوي على تعددية بشكلٍ ما، إما عرقية او طائفية او فئوية او حتى اقتصادية. ذلك هو الواقع الذي نراه، ويزداد المؤمنون بأن الديموقراطية هي الوسيلة المثلى للخروج من المأزق. لا يكاد يختلف على هذا حتى المتباينون عمراً او توجهاً سياسياً سواء كانوا من الجيل المجرب الذي يكاد يودعنا، ومنهم مثلاً لا حصراً الناصريون الذين عملوا وعايشوا عبدالناصر، ومنهم جيل الليبيين الذين عايشوا حكم إدريس، ومنهم الشباب الذين هم إما نتاج الحرب الاهلية اللبنانية، او طلاب جامعة صنعاء. وهذه جميعاً امثلة اوردتها انتقائية وسيعرف القارئ انني اوردتها على هذا النحو حتى يتأكد انني لا اريد حصر تعليقي في هذه المقدمة على جيل بعينه، ولا حتى على اتجاه سياسي بعينه. اقول ان هذا الجيل العربي القادم الشاب، والجيل الذي يودع وقد خبر بعضاً من الحكم المتسامح او الحكم المتصلب، يبدو ان الاثنين باتا على قناعة فكرية بأن المخرج الى وفاق وطني صحي هو البديل الصحيح عن الحرب الاهلية والصراعات العبثية والحكم الديكتاتوري، والعنوان الجامع لهذا المخرج هو: شيء من الديموقراطية. الا ان الديموقراطية في حد ذاتها مفهوم مطاط، ولها تجليات عديدة، ليس في وطننا العربي ولكن ايضاً في اوطان متقدمة ونامية، فهي من جهة مفهوم واسع في تطبيق آلية للحكم، إلا ان تفاصيل هذه الآلية مختلف عليها من بقعة ثقافية وجغرافية الى بقعة اخرى، فهي في وطننا العربي تتعدد اشكالها من ديموقراطية حزبية لها طابع طائفي والمثل من لبنان، او ديموقراطية حزبية لها طابع قبلي والمثل من اليمن، وهناك من اعتقد ان تعيين مجالس شورية هو الحل في الزمن والظرف الحاضرين والمثل من بعض دول الخليج، كما ان هناك من اعتقد ان الديموقراطية تحققها صناديق الانتخاب، ومن وافق ان تكون المرأة جزءاً من المجتمع السياسي ومنا من اعتقد ان الوقت لم يحن بعد، بل ان بعض من سمح للمرأة بالمشاركة السياسية ولو المحدودة وجد ان الضغط الاجتماعي يقل بهذه المشاركة المعقولة للمرأة في الحياة السياسية لمجتمعها ويحسر من مشاركة معقولة لها في الحياة السياسية. اريد القول ان هناك تعددية في التطبيق لفهمنا كعرب للديموقراطية الى درجة تعددت فيها الصور واختلفت، ولكن المهم ان القناعة تامة اليوم ان شيئاً من المشاركة الشعبية بآليات معقولة هو صيحة العصر، وايضاً لا بد لي ان اقول ان بعضنا لا يزال مثقلاً بحزب واحد وبسلطة مركزية بالغة القسوة، ولكن ذلك ضد تيار التاريخ، واعتقد انه لن يفتتح القرن المقبل الا وتكون هكذا سلطة عربية قد دخلت ملفات التاريخ لأنها تحمل اليوم بذور فنائها ان لم تغيّر من ذاتها. لم اكتب ما كتبت إلا لكي اصل لعرض تجربة هي أقرب ما تكون مني حياة ومعرفة، وهي التجربة الكويتية في الديموقراطية، اعرضها على القارئ المنصف آخذاً في الاعتبار ما وصلت اليه من تأزم خلال الاسابيع الاخيرة، وما آلت اليه من انفراج وما اتوقع لها من تطور. اجول بخاطري فأرى اتساع ساحة الممارسات العربية السياسية الرسمية ونقيضها، وفي هذه الساحة الواسعة تتميز التجربة الديموقراطية الكويتية بخاصيتين على الأقل: الخاصية الاولى: انه لا معارضة كويتية خارجية، او لا معارضة خارج اسوار الوطن، أو لا معارضة خارج اللعبة البرلمانية. فكلها تجليات تتشارك في هوامش واسعة. وفي دول عربية عديدة تجد العكس، ولا اقصد هنا وجود المعارضة الخارجية في الدول الديكتاتورية، فذلك طبيعي، ولكن اقصد انه حتى في المجتمعات التي تبنت شيئاً من المشاركة السياسية، لا تجد هذه الخاصية "انعدام المعارضة من الخارج" الا في ما ندر، ربما تجدها في المغرب وفي الكويت، وهما الاستثناءان الوحيدان في ما اعلم. واقصد هنا ان الدولة التي تنظم او تسمح لوجهة النظر الاخرى باتباع طرق مختلفة للتعبير عن المشاركة يفترض انها لا تواجه معارضة خارجية، والامر ليس كذلك بشكل مطلق ولأسباب خاصة بكل استثناء. فالتجربة اللبنانية على مرارة ما مرّ بها، وعلى اهمية تطورها الاخير تواجه اليوم معارضة خارج اسوار الدولة. اما الدول العربية الاخرى فإنها تواجه هذه المعارضة خارج الاسوار صغرت ام كبرت الدولة او المعارضة، وبعضها يوقع الدولة والدول الاخرى في حرج شديد، وقد نختلف وقد نتفق على شكل هذه المعارضة وجدية مطالبها او شرعيتها، لكن لا يسعنا الا الاشارة الى انها موجودة عندما تكون موجودة بالفعل. الخاصية الثانية: ان هناك مرجعية لهذه الديموقراطية، فأي شخص او اشخاص في السلطة العليا مؤمنون بهذا النوع من الحكم واهميته لتقدم المجتمع، ويدافعون عنه في الوقت المناسب وبالطرق المناسبة وعن اقتناع لا تجرحها لومة لائم. تجلى ذلك في التدخل الاخير لأمير الكويت واقتناع من رأس السلطة التنفيذية بأن المطلوب هو الحلول الوسطى، وليس اطاحة التجربة مهما غالى البعض وتصلب. هذه الخاصية - رغبة الحاكم الحقيقية في المشاركة - قد تكون موجودة لدى البعض، الا ان مركبها صعب فيؤثر الكثيرون السلامة، وهي بالتأكيد معدومة لدى الغالبية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولكنها - اي المرجعية الديموقراطية - غير موجودة اصلاً في معظم تجربتنا الديموقراطية العربية، فلأمثل مرة اخرى بلبنان، ففيه رؤوس ديموقراطية وليست فيه مرجعية ديموقراطية، لذلك فقد صوت في الانتخابات اللبنانية الاخيرة بعض الموتى! لقد سنّت دساتير عربية عديدة في ما بين الحربين، في العصر الليبيرالي العربي، ولكنها عندما تصادمت مع الواقع ازيحت تحت تيار هذا الواقع الصعب، لقد اطيح بالتجربة الليبيرالية في مصر برضاء من الشارع المصري لما بدا كأنه فساد الاحزاب، وبعد تجربة طويلة ومريرة وتصفيق شعبي للاطاحة بالنظام الدستوري - ولا اقصد هنا الملكي - بكى البعض لاحقاً على تلك الايام، والتي - من بين امور اخرى كثيرة - امتنع فيها حزب الوفد وهو حزب الاغلبية عن احتكار النقابات المهنية، ولو اراد ذلك لاستطاع، ولكنه ترك النقابات المهنية لأهلها، وبتمثيل مشترك لكل الاحزاب المهمة، وقد قرأت اخيراً مرثية لموقف سعد زغلول الذي شتمه احد الصحافيين واتهمه بالخيانة والفساد فرفع عليه دعوى وهو رئيس الوزراء، فحكمت المحكمة ببراءة الصحافي، على اساس ان سعد زغلول رجل عام قابل للنقد. وكذلك في العراق فقد قدمت الممارسة الديموقراطية ايام حكم الاحزاب - على محدوديتها - اشكالاً من الامثلة التاريخية على الحريات ومساحتها يبكي جيل عراقي كامل اليوم على اقل القليل من ملامحها، اما في ليبيا فقد قامت التظاهرات في المدن الليبية ترفع شعار "إبليس ولا إدريس" وكان إدريس حاكماً، فلما ذهب نقل عنه قوله: قد يكون الله عز وجل قد استجاب لهتافات بعض الليبيين! ما اريد ان اصل اليه هو ان الديموقراطية وممارستها قد تكون ملهية الى درجة انفضاض الناس من حولها ان تحولت الى نوع من عروض مصارعة المحترفين فيها قسوة وفيها تمثيل شكلي، وقد تكون ملهمة ان استطاع الحكماء قيادتها برفق وتحقيق خير الناس من خلالها، والامر ليس سهلاً او بسيطاً في الوضع الكويتي، فالدستور الكويتي قد مضى على العمل به حوالى خمسة وثلاثين عاماً، وهي فترة طويلة نسبياً وفي ذلك نلاحظ ان من وضع الدستور الكويتي قد نص في صلبه على مراجعته بعد خمس سنوات من التطبيق في سبيل دعم الممارسة الديموقراطية، علماً اكيداً بأن هذا الدستور من صنع البشر، وان التطبيق سيظهر لا شك بعض المثالب لأن النظرية في السلوك الانساني هي غير الواقع، كما ان المجتمع في حد ذاته متغير في حاجاته ومتطلباته وفي وضعه الاقتصادي والسياسي، فعلى سبيل المثال لا يوجد احد في وضع اقتصادي صعب يستطيع ان يقدم فرص عمل كاملة تتحملها الدولة، الا على حساب المجتمع ككل. كما ان كل التجربة الانسانية في وضع الدساتير قد ادخل عليها المجتمع شيئاً من التعديل سواء في الهند او الولاياتالمتحدة او اليابان او اي مجتمع سياسي آخر. والمعضلة التي تواجه الديموقراطية الكويتية اليوم في الواقع العملي هي ان جميع الاطراف لا تريد ان تناقش او تقترب من هذا الموضوع على حيويته واهميته، اي مراجعة الدستور، الذي ينبغي ان يكون كالمرآة تعكس ملامح الأمة في تطورها. ولا احد - لأسباب عاطفية ولأسباب من الحذر الزائد - يريد ان يمارس صقلاً للمرآة الديموقراطية الكويتية، وما لا يُصقل يصدأ، وبالتالي يصبح النص وتفاسيره المختلفة - خاصة في المنعطفات التي يختلف حولها - مكان شد وجذب وأزمات متكررة وعبثاً اكثر منه عوناً. في الموقف الاخير وصل المجلس والحكومة الكويتية بعد التأزم الى بعض من خطوات الاتفاق، هل يرى الدستوريون فيها شكلاً من اشكال التعديل للممارسة وبالتالي هي مكملة للدستور في اطار بناء تقاليد دستورية لصقل مرآة الديموقراطية الكويتية، وهل يمكن العودة اليها كتقاليد ملزمة في الممارسة ان ثارت ازمة مشابهة في المستقبل؟ أنا شخصياً اجتهد في تحبيذ هذا التفسير في حالة استعصاء فتح مناقشة حول الاصل، وهو الدستور، وان لم يتم ذلك الصقل المرجو، فالعودة الى ازمات جديدة اخالها قضية وقت اكثر من كونها احتمالات. لقد ملأ تدخل امير الكويت في الأزمة الأخيرة فجوة كانت مرشحة للاتساع، وكان تدخله وما تمخض عنه تأكيداً على وجود مرجعية ديموقراطية ثابتة في ضمير وقناعة الحاكم والمحكوم، ويبقى امام الجميع تحاشي اسباب حدوث فجوة اخرى. واذا كنت قد اشرت الى بعض ما يمكن ان يكون اسباباً لحدوث هذه الفجوات، فان الحقيقة تقتضي مطالبة السلطة التشريعية - او بعض مكونيها - بترشيد الأداء لتصب في اطار "المسؤولية والتسامح" على حد تعبير ما جاء في كلمة الأمير إثر حلحلته للأزمة، فالمسؤولية والتسامح ليسا واجب طرف واحد هو الطرف الرسمي، بل هو واجب الأداء التشريعي ايضاً ممثلاً في مجلس الأمة. وأخيراً يأتي الحديث عن اشكالية الديموقراطية في تجلياتها العربية عموماً، ترى هل هذه ملهية وشكل "ديكوري" ونصوص معلقة في الهواء، أم هي ملهمة تساعد ليس فقط على تطور الشعب واشاعة روح العدالة والمساواة، بل وايضاً ملهمة لجيل متعطش يرى في الديموقراطية حلاً لمشكلاته؟ الاجابة بديهية. وعلينا نحن فقط - لا على غيرنا - يقع عبء تحديد المسار. * رئيس تحرير مجلة "العربي" الكويتية