أوضاع واشنطن على درجة من السوء تدفع الى الاشفاق على كل الذين جعلوا محور سياساتهم "انتظار تدخل كلينتون". انه، بكل بساطة، لن يتدخل. وانتظار تدخله نوع من العبث مشابه ل "انتظار غودو" في مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة. القضية ليست ان الرئيس الأميركي يلعب دور القائد "المتواري"، الذي ينتظر الفرصة لينقض من الأعالي وينقذ هذا او ذاك. كما انها الآن تتجاوز السؤال عما اذا كان الامبراطور مرتدياً بذلته الفخمة الجديدة كما يدعي ام انه يمشي عارياً. القضية الآن هي انه لم يعد هناك في واشنطن "امبراطور" أصلا. ونجد الآن، بدل الرئاسة التي تمثل مركز القوة المعهود المسيطر على صنع القرار الوطني، "ثقبا أسود" من المراوغة والكذب والعجز والاستغراق في الذات. لنشفق اذن على القادة من بينهم ياسر عرفات الذين بنوا استراتيجياتهم على افتراض وجود رئاسة أميركية فاعلة. * * * ما يعترف به الجمبع الآن، بمن فيهم محامو الرئيس، هو ان التطورات في الشهور الأخيرة أضعفت سلطة الرئاسة الى حد كبير. وصرّح كبير محامي البيت الأبيض تشارلز راف اواخر الشهر الماضي ان "التحقيق في قضية لوينسكي... مرتبط في شكل لا يقبل الفصل بالجدول اليومي لأعمال الرئاسة، ولهذا له تأثير قوي على قدرة الرئيس على القيام بمسؤولياته". وأضاف ان التحقيق في الفضيحة "لا يتعلق بالرئاسة ويؤثر عليها فحسب بل يهددها أيضا". عن تناول الرئيس للشؤون الخارجية قال المحامي: "فهمت ان قضية لوينسكي تؤثر أيضاً في قدرة الرئيس على معالجة القضايا الخارجية. على سبيل المثال، اعتبر البعض خلال الأزمة الأخيرة مع العراق ان التحقيق في قضية لوينسكي قد يضعف من قدرة الرئيس على التأثير في الرأي العام". من المعقول ان المحامي راف حاول في تصريحه ان يضخم من تأثير قضية لوينسكي على اداء الرئيس. ذلك ان مهمته وقتها كانت تحضير مطالعة الى القاضية نورما هولواي جونسون يطالب فيها بمنع المحقق الخاص كينيث ستار من استنطاق كبار مساعدي كلينتون حول علاقته بمونيكا لوينسكي، وذلك على اساس "الحصانة التنفيذية". الا ان القاضية في النتيجة رفضت مطلب راف، في خطوة اعتبرها المراقبون بداية النهاية الفعلية لرئاسة كلينتون، حتى اذا لم تؤدِ القضية الى اطاحته او اجباره على الاستقالة. ومن المؤكد أن محور السياسة الأميركية خلال الأشهر المقبلة سيكون استنطاقات ستار لكبار مساعدي كلينتون، ما لن يسمح للرئيس والمساعدين بالتركيز على السياسة الخارجية - وهم لا يستطيعون التركيز عليها الآن اصلاً، حسب المحامي راف. * * * هل هناك حاجة لاستعراض الأدلة على عجز السياسة الخارجية الأميركية خلال الأشهر الخمسة الأولى من السنة الحالية؟ يمكننا ان ننظر الى اندونيسيا، حيث استمرت الادارة الأميركية فترة طويلة في معاملة أزمتها السياسية العميقة على انها مجرد قضية اقتصادية يمكن حلها تقنياً - أي بمجرد "ترشيد" و"ترهيف" عملية اعادة هيكلة الاقتصاد. وعندما اختار سوهارتو، ازاء الضغط الشارعي المتصاعد المطالب بالاصلاح السياسي الجذري، ان يبدأ فترته الرئاسية السابعة، اكتفت واشنطن بارسال وزير مساعد من وزارة المال ليتعامل برفق مع ذلك الديكتاتور العجوز. بالمقابل ادرك الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات بسرعة ان عصر ديكتاتور الفيليبين فرديناند ماركوس قد انتهى، وارسل بعثة رفيعة المستوى لاقناعه بالانسحاب بهدوء. لنا ايضاً ان ننظر الى شبه القارة الهندية، حيث فوجئت كل اجهزة الادارة، وليس فقط "سي. آي. أي."، بقرار حكومة الهند القيام بتجارب نووية. ثم بدت الادارة على قدر اكبر من الضعف والتفكك عندما وجهت الى باكستان تحذيراتها الفاشلة من القيام بالمثل. نسفت التجارب النووية في شبه القارة نحو ثلاثين عاماً من غرور "النادي النووي الخماسي" وتفرده، وفرضت على صانعي السياسة في انحاء العالم مراجعة استراتيجياتهم ازاء السلاح النووي. لكن هل سمعنا من البيت الأبيض ما يشير الى ادراك كلينتون وكبار مساعديه للاخطار التي ينطوي عليها الوضع الحالي وكيف يخططون لمواجهتها؟ كلا، ولا كلمة. * * * مع كل هذا وذاك، هناك دوماً بالطبع "بيبي" نتانياهو. ان منظر هذا المرّوج الاعلاني الرخيص وهو يتلاعب بالرئيس الأميركي يؤلمني الى درجة تدعوني الى ترك مهمة التعليق الى الصحافي الاسرائيلي يوئيل ماركوس من صحيفة "هآرتس"، الذي لم يعرف عنه الكثير من الميل الى اليسار. كتب ماركوس اخيراً: "العنصر الأكثر اثارة للاستغراب في ادامة بيبي هو الادارة الأميركية. إذ ارتكبت الادارة، تحت رئيس ضعيف لا يعطي أهمية كبيرة للشؤون الخارجية، اخطاء طفولية... ما يتضح شيئاً فشيئاً هو ان السيدة الحديدية وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت ليست حديدية تماماً. اما من حيث الحكمة، فهي لا تقارن ابداً بهنري كيسنجر... انها ادارة مفتقرة الى اي تفكير استراتيجي في الشؤون الخارجية. ساندي بيرغر نفسه شخص عبقري، وهو مستشار الأمن القومي الأكثر تأصلاً في السياسة منذ وجد المنصب. لكن مهمته الرئيسية هي العناية بمصلحة الرئيس، ما يجعل العنصر الرئيسي في صنع القرارات هو فائدتها للرئيس او اضرارها به على الصعيد الداخلي. ولا يريد الرئيس تحدي الكونغرس، في هذا الوقت الذي يجد نفسه متورطاً في فضيحة لوينسكي وايضاً، وهو الأمر الأخطر، فضيحة تمويل الصينيين لحملته الانتخابية. الكونغرس موالٍ لاسرائيل، التي يحتاجها الرئيس كما يحتاج اليهود الأميركيون لضمان انتخاب آل غور للرئاسة. ان بيبي يفهم اميركا أفضل من المختصين، وهو يحكم التهديف على رئيس يواجه المتاعب وكونغرس متعاطف مع مطالبه". * * * من بين ما تطلبه "السيدة الحديدية"، رغم ما اصابها من الصدأ، من عرفات ان يحاول منع شعبه من التظاهر لأن التظاهرات "قد تتحول الى العنف". السؤال هنا عن مدى وقاحة الطلب. فهل طلبت شيئاً مشابهاً من مواطنها سابقاً فاتسلاف هافل اثناء "الثورة المخملية" في تشيكوسلوفاكيا ضد استمرار السيطرة السوفياتية؟ وهل طلبته من الأميركيين المشاركين في المسيرات من اجل الحقوق المدنية وضد الحرب الظالمة على فيتنام في الستينات؟ كلا، لم تفعل ذلك بالطبع. وما يثير اشد الغضب ان هذه المبعوثة من "الثقب الأسود" في واشنطن، او ما كان يسمى الادارة الأميركية، تحاول ان تفرض قيودا على حرية الشعب الفلسطيني في تنظيم نشاطه السياسي. ليس لنا سوى ان نأمل ان هناك متسع من الوقت - تاريخياً وايضاً بالنسبة للزعيم الفلسطيني الذي يتقدم في السن - لكي يتذكر هذا "الختيار" ماذا كانت تلك القوة التي اعادته الى وطنه بعد طول البعاد، ووفرت له مظاهر وامتيازات الحكم، التي يبدو مولعاً بها على تواضعها وشكليتها. كلا، لم يكن السبب حنكة الديبلوماسية الأميركية والتزامها حقوق الفلسطينيين. كما لم يكن كرم اسرائيل. بل كان قوة الشعب الفلسطيني، التي اثبتها من خلال ست سنوات من الانتفاضة والعقود المؤلمة قبلها من العمل السري الذي قام به الفلسطينيون المستعدون للكفاح، بانضباط وكرامة، حفاظاً على الأرض ولاستعادة الحقوق. أم هل يعتقد السيد عرفات ان الاستراتيجية الأفضل هي انتظار كلينتون - غودو، ذلك الذي لن يأتي. * كاتبة بريطانية متخصصة في شؤون الشرق الاوسط