على امتداد ثلاث حلقات نشرتها صحيفة "الحياة" أيام 23 و26 و27 ايار مايو الماضي، استعرض الدكتور ابراهيم علي محمد تاريخ العلاقات الأوروبية الاتحادية وتطورها في المجال النقدي على وجه التحديد مستشرفاً ان انطلاق العملة الأوروبية مطلع العام المقبل سيكون بداية لانتقال مركز الثقل الاقتصادي في العالم من حيث هو الآن الى أوروبا. لا نشك في ان طرح العملة الأوروبية الموحدة للتعامل عبر الاسواق يعد أهم الاحداث الاقتصادية في العالم خلال الخمسين عاماً الماضية، لكننا نتريث الى حد كبير عندما يتعلق الأمر بقدرة اليورو على نقل مركز الثقل الاقتصادي والتجاري للعمل والتحريك والتأثير من قلب الولاياتالمتحدة الى قلب منطقة اليورو التي تشكل حوالى ثلثي دول الاتحاد الأوروبي. الملاحظ ان الخطة التي وافق عليها زعماء دول الاتحاد الأوروبي عام 89 بهدف التمهيد لإقامة الاتحاد الاقتصادي والنقدي في ما بينهم تكونت من ثلاث مراحل ركزت أولاها على ضرورة اتخاذ دول الاتحاد لمجموعة من الاجراءات تمتنع بموجبها البنوك المركزية نهائياً والى الابد عن مد يد العون لتمويل عجز الموازنات الحكومية. ذلك لان المعطيات التي نشرت خلال الربع الأول من العام الجاري حول الدول الپ11 التي تمت الموافقة على انضمامها الى عضوية الوحدة النقدية الأوروبية أبرزت انه وان كانت قد اثبتت انها تمكنت من تحقيق معظم الاشتراطات وفق المعايير التي حددتها معاهدة ماستريخت، الا ان عدداً لا يستهان به منها لم يتمكن من ان يوقف مجمل قيمة دينه العام عند مستوى 60 في المئة من مجموع انتاجه الاجمالي وهو احد أهم المعايير التي اكدت عليها الاتفاقية المشار اليها. وزادت هذه النسبة بمقدار معقول كما تقول المعطيات الاقتصادية في كل من المانياوالبرتغالوالنمسا، لكنها بلغت اكثر من ضعفي المعيار في كل من ايطالياوبلجيكا، وبالرغم من ذلك قبلت جميعاً كاسواق جاهزة لتداول اليورو اعتباراً من مطلع العام المقبل من منطلق ان نجاحها في تحقيق الاشتراطات الاخرى سيمهد لها طريق تخطي هذه العقبة. وهنا تكمن مشكلة المشاكل التي تعد مصدر الاضطراب والتوتر من وجهة نظر المؤسسات المالية لأن خدمة هذه الديون تستقطع من انتاج الدولة الاجمالي وهذا يكون دائماً على حساب الانفاق الحكومي الحتمي المخصص لخدمات المجتمع. وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على ان معايير القبول صُبغت بالرؤية السياسية أكثر مما اعتمدت على المؤشرات الاقتصادية والمالية، اذ تمسكت الحكومة الفرنسية بضرورة قبول هذا الدول لأنها رأت ان سلبيات عدم قبولها سياسياً ستكون أكبر بكثير من الاضرار الاقتصادية التي ستنجم عن انضمامها إلى عضوية النادي النقدي الأوروبي. ولكن ماذا سيكون موقف هذا التكتل النقدي عندما لا تتمكن على الاقل كل من يطاليا وبلجيكا من تخطي هذه العقبة الصعبة خاصة انها وقعت ميثاقاً إبان قمة بروكسيل في بداية أيار مايو الماضي تعهدت بموجبه ان تدفع غرامة مقدارها 0.5 في المئة من اجمالي انتاجها المحلي اذا لم تتمكن من خفض هذه النسب الى المستوى المطلوب. معنى ذلك ان هذه الدول ستكون مضطره، الى جانب سداد متطلبات خدمة الدين العام، الى الوفاء بقيمة الغرامة التي تعهدت بسدادها ان لم تبذل قصارى جهدها لوضع مؤشر الدين العام تحت سيطرتها التامة، ويعد ذلك من قبيل التكاليف التي تنوء بها اقتصادياتها المجهدة. ويميل الكثيرون الى اعتبار تصميم وزير المال الألماني لفرض هذا التعهد على الدول الأوروبية الخمس بما فيها حكومته نوعاً من المناورة السياسية والدعاية الانتخابيه للتأكيد على ثقة المستشار هلموت كول التامة بفوز حزبه في الانتخابات الالمانية العامة التي ستشهدها بلاده في نهاية ايلول سبتمبر المقبل كسباً لمزيد من التأييد لبرنامجه الانتخابي الذي يعتمد اساساً على دعم الوحدة الأوروبية بكل اشكالها. فمن المعروف ان جيرهارد شرودر زعيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي ترشحه كل التوقعات للفوز بهذه الانتخابات له آراء سلبية في ما يتعلق بالوحدة النقدية الأوروبية يقال انها كانت من بين أسباب فوزه الساحق في الانتخابات المحلية في ولاية ساكس السفلى والتي في ضوئها اختارته قيادة الحزب حصل على 93.4 في المئة من أصوات اعضاء مؤتمر الحزب لمنازلة كول في هذه الانتخابات. ومنطقة اليورو بوضعها الراهن قبل ان تنضم اليها في ما بعد كل من المملكة المتحدة والدنمارك والسويد واليونان لا تستطيع ان تنافس الدولار الاميركي لأنها حتى لو استمرت في وضعها الراهن من دون تغير من جانب حكومة المانيا المقبلة بالانسحاب أو تجميد الأوضاع، لن تكون قادرة على المساهمة في الانتاج المحلي الاجمالي العالمي إلا في حدود 14 في المئة أو أقل في مقابل 19.4 في المئة من جانب الولاياتالمتحدة، وبالمثل ستكون مساهمتها في التجارة العالمية محدودة خصوصاً اذا تواصلت معاناة الدول الخمس ذات الديون المتضخمة المانيا، البرتغال، النمسا، ايطاليا، بلجيكا من ناحية ولم تنضم الى النادي النقدي الأوروبي الدول الأربع المتريثة المملكة المتحدة، الدنمارك، السويد، اليونان في انتظار ما ستسفر عنه تجربة الآخرين من النتائج. لا أحد ينكر ان تحديد اسعار المنتجات في أسواق منطقة اليورو بعملة واحدة سيوفر بضعة ملايين لصالح المواطن وسيساهم في خفض تكاليف الانتاج وسيرفع القدرة التنافسية للمنتج الأوروبي في الاسواق وسيدفع عملية التخصيص وإعادة الهيكلة الى الأمام بخطى اسرع، ولكن ما هو الموقف على صعيد الاستثمارات والتنمية؟! هل يستطيع البنك المركزي الأوروبي من مقره في مدينة فرانكفورت ان ينسق السياسات المالية والاقتصادية لدول اليورو؟ يتوقع بعض المراقبين ان تتعثر هذه السياسات لأن دول اليورو مهما اندمجت فلن تشكل في نهاية الأمر دولة واحدة مثل اميركا. وهناك من يدلل على هذا الاستشراف بالتفاوت في مستويات الاداء السياسي لدول الاتحاد الأوروبي خاصة اذا اخذنا في الاعتبار سمة اخضاع التعامل الاقتصادي الأوروبي للسياسة والعصبيات القومية الضيقة التي ابعدت البريطانيين المتمسكين بخصوصيتهم السياسية المتميزة عن قبول عضوية النادي النقدي أو تأييد الوحدة السياسية الشاملة خشية فقدان هذه الخصوصية بشكل أو آخر. نتائج ايجابية وهناك من يرى النتائج الايجابية التي سيحققها انطلاق اليورو من زاوية اخرى، فمثلاً: أ - توحيد أسواق العمل سيكون على حساب ابناء البلد الأصليين، اذ سيكون التفضيل لليد الوافدة الرخيصة مما سيرفع مستوى مؤشر البطالة في بلد مثل المانيا التي تتميز بارتفاع اجورها وما يمثله ذلك من ضغط سياسي واجتماعي لا بد من أخذه في الحسبان. ب - حرية انتقال تكتلات رؤوس الاموال الأكبر والأقوى الى فرص الانتاج الأرخص ستكون على حساب رؤوس الاموال المحلية التي تود ان تتاح لها أوسع الفرص للنمو والنشاط داخل حدود دولها أولاً، لأن قوة الاستثمار الوافد من دولة أوروبية لن تتوقف عن حدود معينة بل ستنتشر حيث تتوافر الظروف الملائمة وأولها قدرته على النفاذ، وهذه القدرة ليست متوافرة الا لدولتين أو ثلاث داخل منطقة اليورو بوضعها الحالي لهذا من المتوقع ان تكون فرص العدد الباقي ضعيفة للغاية في هذا المجال. ج - تعثر بلد ما من بين الدول الپ11 الاضعف اقتصادياً في محاولاته الاصلاحية خفض نسبة الدين العام أو في مجال تحديث بنيته التحتية سيلزم الآخرين بمد يد العون له، وان كان لهذا نتيجة ايجابية تتمحور حول تنشيط الآليات الاقتصادية للآخرين والمساهمة في تطويرها الا انه سينعكس سلباً على اقتصاديات الدول الأقوى وايضاً على موقع منطقة اليورو ككل فوق خريطة الانتاج والتجارة العالمية. د - فتح الباب امام تخصيص اقتصاد كل دولة في ما هي متفوقة فيه سواء كان صناعات دقيقة أو صناعات كيمائية أو انسجة وملبوسات جاهزة أو بناء وتشييد أو صناعات جلدية أو غذائية أو خفيفة أو خدمات مالية، سيعرض مجالات الانتاج الاخرى في كل منها الى ضغوط تنافسية ستؤدي في النهاية الى انكماشها وتحولها الى مواطن توتر واضطراب داخلية. 5- تحكم البنك المركزي الأوروبي في السياسات المالية لدول اليورو سيصطدم حتماً في وقت لاحق طال أم قصر بعقبات كثيرة تقف أمام تطبيق سياساته المالية داخل بعض دول مجموعة اليورو لاختلاف مستويات أدائها الاقتصادي وتفاوت مؤشرات نموها، كما سيصطدم بسياسات لتمويل العجز الحكومي تتعارض مع برامجه المالية. الدولار الاميركي متربع على عرش النظام المالي العالمي بكل ثقة منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى ليس فقط بسبب استخدامه المكثف من قبل الغالبية من الدول كعملة دولية، لكن لاستخدامه ايضاً كمخزن للقيمة وتحويل الثروات وتسعير السلع والخدمات ما جعله يكتسب قوة اكبر بكثير من حجم الولاياتالمتحدة الاقتصادي. وعبر الثلاثين عاماً الأخيرة وفي ظل تنامي سيولة الاسواق المالية اتسع نطاق التعامل بالدولار على مستوى الشركات والافراد وكل النشاطات المالية والتجارية والخدمية فأصبح استخدامه مصدراً للثقة الدولية الواسعة. ولعل تجربة الين الياباني والمارك الالماني خلال الخمسة عشر عاماً الأخيرة في مجال مزاحمة الدولار الاميركي مالياً وتجارياً واقتصادياً وانتصاره عليهما خير دليل على قوته وهيمنته وقدرته على الصمود. ويعزز من هذه المكانة تأجيل لندن النظر في انضمامها الى الوحدة النقدية الأوروبية، اذ يرجع الكثيرون ذلك الى اسباب سياسية تنحصر اجمالاً في ميل بريطانيا نحو اميركا اكثر من ميلها نحو أوروبا، اضافة الى اسباب اقتصادية ترى ضرورة حماية بنك انكلترا المركزي من مخاطر التسييس التي سيفرضها البنك المركزي الأوروبي حتماً من مقره في فرانكفورت. ويؤكد الكثير من التقارير الحيادية ان تمسك رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير بضرورة استفتاء الجماهير لاستطلاع رأي القاعدة العريضة حول الانضمام الى الوحدة النقدية الأوروبية نابع من تحليلات مبنية على وجود معارضة شعبية كبيرة لهذه الخطوة ستكون السند الأقوى الذي يعتمد عليه اذا قرر عدم الانضمام، وفي هذه الحال ستخسر منطقة اليورو الشيء الكثير بسب الثقل السياسي والاقتصادي والتجاري والمالي الذي تمثله لندن. لا شك ان اليورو كعملة دولية ستتمتع بمكانة متميزة بين العملات الاخرى فور انطلاقها وستزداد هذه المكانة ترسخاً كلما اتسعت مجالات الاستثمار وانخفضت تكاليف الانتاج ووسعت البنوك المركزية من استخدامها لها تداولاً وتخزيناً لتجنب الخسائر الناجمة عن انخفاض العملات العالمية الاخرى، ولكنها لن تكون قادرة في المدى القريب أو المتوسط على نقل الثقل الاقتصادي الدولي من قلب القارة الاميركية الى قلب القارة الأوروبية. وحتى اذا تمكنت دول منطقة اليورو من تحقيق حلم الترابط والتنسيق في ما بينها لكي تتكامل في نهاية المطاف وتحقق المستوى المطلوب من التوحد السياسي، فستحتاج سنوات عدة كي تتمكن من منافسة العملة الاميركية التي مضى على تأسيسها وتمتين جذورها حوالى سبعة عقود. اما اذا هزم المستشار هلموت كول في الانتخابات العامة الالمانية المقبلة وفاز بها منافسه جيرهارد شرودر المناهض للوحدة الأوروبية النقدية والاقتصادية بشكل خاص ورفضت الجماهير البريطانية الفكرة شكلاً وموضوعاً، فسيهبط موقع الوحدة النقدية الأوروبية من التميز الى ما دون ذلك.