تابعت طوال بضعة شهور ما يكتب حول الاحتفال الذي تعده وزارة الثقافة المصرية للعلاقات الثقافية المصرية - الفرنسية. وحول موعد الاحتفال، الذي يصادف مرور مئتي عام على الحملة الفرنسية على مصر. اختلف المثقفون المصريون، وانقسموا الى مؤيد ومعارض. وأعتذر على هذا التصنيف وأتمنى ان يجد القارئ في المقال ما يبرره. يرى الفريق المؤيد في الاحتفال مناسبة لإعادة قراءة تاريخنا الوطني، وفرصة لتطوير جوانب علاقتنا مع فرنسا، على الأقل بهدف كسر احتكار أميركا صناعة القرار على مسرح الأحداث العالمي. ويعتقد هذا الفريق ان الاحتفال سيكون فرصة للتبادل الحر للآراء وللحوار المثمر الرامي الى المنفعة المتبادلة. وهذا الفريق يضم مجموعة من أعلام الفكر والثقافة في مصر: احمد عبدالمعطي حجازي وكامل زهيري ويونان لبيب رزق وفؤاد زكريا ومحمد عودة وغيرهم ممن يصعب ببساطة الاستهانة بموقف يجمعون عليه. ويستند الفريق المعارض على تزامن موعد الاحتفال مع مرور مئتي عام على الحملة الفرنسية على مصر، وأنه لا يليق بنا الاحتفال باحتلال بلادنا. وفي حين لا يمكن إنكار وجود خلاف موضوعي حول تقويمنا لتاريخنا الحديث وأهم أحداثه، تنزع عقلية الحقيقة المطلقة الى إضفاء صبغة اليقين على ما يقولون، وبما أنه من الصعب دعم اليقين بدلائل على يقينيته، إذ أنه ببساطة يقين لك ان تقبله أو ترفضه، لذا يلجأ هذا الفريق الى نوع من التجني على الحقيقة بالنظر اليها من زاوية واحدة، وبالتالي تجاهل عوامل التأثير والتفاعل المتبادل والحركة والتغير التي تطرأ على الظواهر أياً كانت بما في ذلك التاريخي منها. ولعل أبرز نموذج لهذا النزوع هو رأيهم القاطع بأن مصر كانت، قبل الحملة، تسير على الطريق الموصل حتماً الى نهضة مؤكدة اجهضتها الحملة، ويدللون على ذلك بالقول مثلا بتطور علم الفلك على يد رضوان افندي عام 1710. واذا كانت الحقائق التي توصل اليها علم التاريخ، في حد ذاتها كحقائق، لا يمكن إنكارها، الا انه لا يمكن بالقدر نفسه فصلها فصلاً تعسفياً عن سياقها العام والظروف التي صاحبتها، هذا إذا أردنا توخي الموضوعية في الحكم على وضع تاريخي محدد. أما اعتبار ان تطور علم الفلك على يد رضوان افندي ينهض دليلاً على نهضة مصر قبل الحملة، فتلك محاولة غير جادة في اقل تقدير. والمؤسف حقا أن هؤلاء انتزعوا فكرة نهضة مصر قبل الحملة انتزاعاً من سياق عام لوجهة نظر مجموعة من المؤرخين الفرنسيين والمصريين، تفترض أن الشرق الأوسط ومصر عرفت قبل الحملة الفرنسية تحركات تجارية كبرى رافقها نمو لبعض عناصر المجتمع الرأسمالي، وبالتالي افترضوا ان مصر كان بوسعها ان تتخذ منحى آخر للتطور، تطوراً ذاتياً في المقام الاول، أجهضته الحملة. وتلك وجهة نظر جادة اضاءت بعض جوانب تاريخنا الحديث، والتي كانت مظلمة حتى وقت قريب، على انه من العسير ان يقطع احد بحتمية نجاح مصر في احداث هذا التطور الذاتي، إذ ان الحملة الفرنسية قد حلت بكل آثارها لتختلف الصورة تماما، وبصرف النظر عن تقدير اي طرف لتأثيرات الحملة على مصر، لقد ابتسر هؤلاء وجهة النظر تلك، واختصروها وانزعوها من سياقها، ليستخرجوا منها عنوة استنتاجات قاطعة يقينية مطلقة، يستحيل عملياً البرهنة عليها، ثم اخذوا بعد ذلك يستعرضون مظاهر الحضارة واشكال النهضة التي كانت مصر ترفل فيها اثناء الحكم العثماني. وفي السعي للتدليل، تحارب هذه العقلية طواحين الهواء، فتدعي موقفاً على الفريق الآخر لم يقله، ولم يلمح او يصرح به، وتأخذ في الرد عليه، مثل ادعائهم على الفريق الآخر بأنه قال ان مصر كانت قبل الحملة ارضاً خراباً يباباً، ينام ابناؤها بين حطامه في سبات عميق، وفي هذا الادعاء محاولة ساذجة لإثبات الذات عبر نفي الآراء، حتى ولو جاء ذلك عبر الافتراء والتلفيق بهدف اصدار تهمة تستوجب النفي. اذ تؤكد كتب التاريخ ان المقاومة الشعبية التي وصلت الى حد الثورة لم تنقطع في مصر قبل الحملة، وأن ثورة همام على سبيل المثال، التي استقلت بالصعيد، مارست بعض عناصر النظام الجمهوري، وكان ذلك قبل قيام الثورة الفرنسية نفسها. وأكثر من ذلك كانت "الحجة" الشهيرة التي وقعها قادة الشعب المصري اثناء ثورة 1795 مع المماليك و"العثمانلية"، بمثابة خطى اولى مبكرة لمصر نحو الدستور. وتؤكد تقارير تاليران وزير الخارجية الفرنسي إبان الحملة على ما هو أهم، تلك التقارير التي أرسلها الى بونابرت مزكيا حملته على مصر، قائلا إن مصر: "لغم عظيم ينتظر الشرارة، أو بركان مكظوم ينتظر رجل الأقدار، وأن ارادة التغيير على رغم قوتها وعمقها مشلولة عن الانطلاق". وهكذا لا يختلف احد على ان مصر، قبل الحملة الفرنسية كانت ارضاً خصبة للاحداث وللأفكار الثورية. على ان البعض يرى، خلافاً لفريق المعارضة للاحتفال، ان تلك الاحداث والافكار انما تبلورت وتفجرت بفعل احتكاك مصر للمرة الاولى بالحضارة والثورة الاوروبية اثناء وبعد الحملة الفرنسية. ويرى انور عبدالملك ولويس عوض انه، عبر مقاومة المصريين للاحتلال الفرنسي، بدأت تتجمع للمرة الاولى المشاعر القومية لدى المصريين. والجبرتي شيخ المؤرخين، الذي وصفه الفرنسيون بأنه شيخ متعصب ضدهم، على رغم عدائه للفرنسيين من نواح عدة، الا انه نادى بالاستفادة من الحضارة الاوروبية، ودعا لدراسة العلوم الوضعية، واعتبر ذلك شرطاً ضرورياً لتطور الشعوب، وابدى الجبرتي بالغ تقديره لاحترام الفرنسيين للعلم، واحترام العلوم نفسها التي اتوا بها الى مصر، وللتنظيمات والقوانين والاصلاحات التي ادخلوها مصر، بل انه ابدى اعجابه حتى بالفنون الفرنسية. ولويس عوض الاشد تحمساً للتاريخ الوطني المجيد للشعب المصري قبل الحملة يؤكد مع ذلك ان كل اشكال الكفاح الوطني والمقاومة ضد الحكم الاجنبي قبل الحملة اتسمت بطابع اقتصادي بحت، وانها خلت من اي مضمون اجتماعي او سياسي او فكري، تلك المضامين التي برزت واتضحت في الحراك الاجتماعي بعد الحملة، وكنتيجة مباشرة لاحتكاك المصريين بالحضارة الاوروبية عبر الحملة بداية. ولست هنا بصدد مناقشة تلك الآراء، ولكنني اتساءل هل يمكن ببساطة تجاهل هذا الموقف لفريق من ابرز مفكرينا ومؤرخينا؟ والقطع بحقيقة وحيدة مطلقة معاكسة يراد من القارئ تصديقها وهي ان المحصلة النهائية للحملة الفرنسية على مصر هي الخراب؟. ومع ذلك، فهل يعني كل هذا ان بونابرت غزا مصر ليحررها ويطورها ويعلمها ويثورها كما يدعي فريق معارضة الاحتفال على لسان الفريق الاخر؟ انا لا احسب ان ساذجا ينكر وفي اي سياق ان بونابرت انما جاء غازيا مغامرا يضمر الشر والعدوان، ويتطلع الى الامجاد الاستعمارية وحسب، وانه مارس اغلظ انواع العنف والبطش ضد المصريين، واستهان الى حد بشع بمشاعر الشعب المصري بانتهاكه حرمة الازهر الشريف، ومارس نفاقاً وألاعيب استخف بها بعقول المصريين واستهان بهم. وعلى رغم ذلك، فقد ميز، حتى معاصرو الحملة من شيوخ الازهر والاعيان والقيادات الوطنية المصرية آنذاك، بين الجانب الاستعماري للحملة وبين المقومات المادية والفكرية لهذه الحضارة الجديدة. ولم يخش الجبرتي سوء ظن معاصريه حين ادرك، وكتب ذلك صراحة، الفرق بين الارهاب والتنكيل الفرنسي بالشعب المصري اثناء ثوراته ضدهم، وبين العدالة وسيادة القانون اللذين ارساهما الفرنسيون في فترات الهدوء السياسي - النسبي. واكثر من ذك فقد ابدى الجبرتي تقديره لاحترام الفرنسيين للقانون حتى اثناء محاكمة سليمان الحلبي. وما كان اولى من الجبرتي وهو الذي ارخ للتعسف والظلم والبطش الفرنسي بشعب مصر، ان يتناول الحملة فقط من منظور واحد، ولو فعل لما آخذه احد، على ان شيخ المؤرخين لم يكن من اصحاب الحقيقة المطلقة والقول الفصل. فريق المعارضة للاحتفال تحول بأنظاره وانظارنا جميعا الى تقويم للتاريخ المصري الحديث، وهم يحكمون على هذا التاريخ احكاما تعسفية قاطعة احادية الجانب، ويتناولون، بسطحية يحسدون عليها اشد المعضلات التي واجهها العقل والوجدان العربي منذ خروج الشرق من العهد العثماني حتى الآن، واخيراً، لم يقدم اي من اعضاء هذا الفريق اية حلول او اجتهادات للنظر في هموم الحاضر، فكيف لنا، وبأية وسائل، ومن مواقع الندية والاحترام المتبادل، ان نقيم علاقة مع هذا الغرب؟ كيف تحل معضلات وتناقضات التاريخ التي تدعونا بكل امجادنا وتاريخنا العريق الى الوقوف موقف المتعلم المستفيد؟ من دون اية ذيلية او تبعية او عقدة دونية؟ وعلى الا تنسينا هذه الضرورة ان مصر كانت، ولعلها ما زالت، محط اطماع المستعمرين والمغامرين، وان اختلفت اشكال الاستعمار المعاصر. ان تضارب وجهات النظر في هذه القضية المصيرية، التي يتوقف بالفعل عليها طريق التطور والتنمية اللاحق، ينهض دليلاً مهماً على أمرين اثنين. اولاً: استمرار معضلة علاقة الشرق بالغرب التي اضنى تأملها والبحث فيها اجيالاً عدة. وثانياً: اننا على رغم الجهود الضخمة لم نتفق بعد على تقويم تاريخنا الحديث، ولا حتى اهم احداثه. كنت استهجنت قول عالم المصريات الالماني جورج ايبرز، ان الشرقي يفتقر الى الحس التاريخي، ويميل بدلا منه الى القصص والروايات التي تثري وجدانه، وانه يفتقد بالتالي القدرة على فهم التاريخ وتقويم احداثه ومعرفة مراحله المختلفة. على ان العقلية القابعة خلف موقف فريق معارضة الاحتفال جعلتني استعيد هذه الفكرة لا تأملها مرة اخرى. أحد اوجه قصور هذه العقلية عن فهم التاريخ وتقويمه تقويماً موضوعياً يكمن في الانطلاق من الوضع الراهن، في حركة عكسية من الحاضر الى الماضي، من المقتضيات الوطنية للسياسة الحالية الى الحكم على التاريخ برمته. فاذا كانت مسيرة السلام في الشرق الاوسط تجمدت، وكان الغرب غير مؤيد بشكل فعال - كما يرى هذا الفريق - الفعالية المطلوبة، واذا كنا نعاني ازمة حضارية طاحنة وعلى كل الاصعدة، وتحدياً صارخاً يمثله الغرب بتطوره الهائل مقابل تخلفنا المزري. اذن عليه اللعنة كل هذا الغرب وبأثر رجعي- اي منذ مئتي عام. انهم يرفضون النظر الى الماضي باعتباره ماضيا، يرفضون التمييز بينه وبين الحاضر، ويؤدي هذا الى الخلط بين مهمتين وطنيتين على قدر من الاهمية. اولاً: دراسة التاريخ دراسة جادة موضوعية تمكننا من فهم اسهاماتنا، المتعددة وموقعنا السابق، وهو طليعي متميز، في صناعة احداث التاريخ، ومن ثم استخلاص دروس هذا الماضي والبحث في كيفية الاستفادة منها لتطوير حاضرنا. وثانياً: دراسة وفهم واقعنا الراهن - وهو واقع لا نحسد عليه - الامر الذي يعد اساسا لرصد امكاناتنا وقدراتنا الواقعية الحالية على التقدم للامام مرة اخرى والاسهام في دفع عمليات التطور. وتلك ايضا بعض هموم الحاضر التي لا يقدم لنا فريق معارضة الاحتفال اية حلول او اجتهادات بصددها. ان خلط التاريخ بالسياسة ادى الى استباحة دم التاريخ ودق عنقه على مقصلة المشاعر السياسية الآنية التي لا ننكر على اصحابها وطنيتهم كما يفعلون هم مع من يختلف معهم وبالتالي تجاهل هموم الحاضر وتناقضاته التي يحيلونها الى الماضي الامر الذي ننكره فقط باعتباره منهجا غير علمي وعقيم في تقييم التاريخ وعلى رغم ان الحاضر هذا الآسن المتردي لا يني يحاصرنا ويؤرقنا ويفرز مشاعر الغضب والالم والاحباط والعجز حياله. انهم يجعلون من الماضي خزانة يجرجرون منها اردية الفخر والعزة والكرامة التي يفتقدونها في الحاضر. ومهما اختلفت مع اصحاب فكرة الاحتفال بذكرى الحملة الفرنسية فستجد معظمهم يتطلعون الى المستقبل ولديهم فكرة ما عن تطوير الحاضر، والفارق شاسع. ويبدو ان اضفاء صبغة الحاضر على الماضي هي الروشتة السحرية التي تقدم لنا حلا ما اسهله لعقدة التخلف التي استبدت بنا. اذ نحن بذلك نستطيع النظر باستعلاء وعنجهية الى الثورات العلمية والتكنولوجية للغرب، تلك التي نرتع في منتجاتها طواعية، وبشغف نتطلع الى المزيد. وهنا بالذات تشتد العقدة استحكاماً، اذا اننا في جوهر الامر نقبل بنهم على الجانب المادي والرخاء الدنيوي القادم من الغرب، ونرفض بتعنت الجانب الفكري والقيم الحضارية والمناهج العلمية في البحث والدراسة والفهم، تلك التي وقفت خلف تفوق الغرب وازدهاره، ونستمد هذا الجانب من ماضينا التليد الراسخ وتلك معضلة يتميز بها العقل العربي الآن. ان عقلية الحقيقة المطلقة والقول الفصل تقدم لنا اعجب طرائق قراءة التاريخ، وذلك حين يعتمدون في تفسيره على نوايا واهداف واقوال صانعيه، وبمنهج انتقائي، يختارون من بين هذا الركام ما يخدم تقديم الدلائل على آرائهم اليقينية هذه، بدلا من بحث النتائج الفعلية الملموسة التي تمخض عنها هذا الحدث او ذاك، واذا كانت العبرة بالنوايا والاقوال، فقد صدرت عن نابليون اقوال تدل على بالغ حسن النية تجاه مصر، واحترام لعادات وتقاليد ومعتقدات المصريين، فهل ينفي ذلك انه انتهك حرمة الازهر الشريف؟ وهل يمحو ذلك بطشه وعدوانه البشع على المصريين؟ وهل يسدل هذا ستارا على الوجه الاستعماري العسكري للحملة الفرنسية؟ وهل ينقص او يزيد قيد انملة من التأثيرات الهائلة للحملة على مصر؟. واذا كانت العبرة بالاقوال وحسب، فما رأي هذا الفريق في ما كتبه الجبرتي، الذي يستشهدون به لنفي الطرف الاخر، مع ابرز قيادات الشعب المصري آنذاك الى بونابرت يهنئونه بتعيينه قنصلاً عاماً. وكان ذلك بعد اخماد الفرنسيين لثورة القاهرة الثانية، وفي ظرف استثنائي للغاية اجبر فيه مينو هؤلاء على تحرير تلك الرسالة المشؤومة، التي انتقلوا فيها بعد الثناء على بونابرت ووصفه "بسيف اللّه المسلول" الى القول: "ونحن اذ قلنا ان المصريين يؤلفون مع الفرنسيين امة واحدة لأصبنا كبد الحقيقة... ونحن انما نطلب اليكم الا تغفلوا امر مصر... ذلك ان مصر هي بلادكم، ولا شك ان شرف عاصمتها هو شرفكم. واما اهلها فهم يكنون لكم كل محبة وتقدير ويترقبون عودتكم بفارغ صبر... ان الدين الاسلامي الذي ظفر بتقديركم ليدعوكم الى المجيء الى هذه البلاد مرة اخرى.. وان هذا اليوم ات لا ريب فيه لان المولى عز وجل قد اراد ذلك ولا مناص من تنفيذ ارادته". التوقيع: البكري والشرقاوي والامير والمهدي والصاوي والفيومي والجبرتي والرشيدي. وعلى رغم ان هذه الرسالة لم تبعث الى بونابرت لاختلاف الظروف بعد ذلك الا انها حفظت في الديوان وفي الامكان الاطلاع عليها، فهل من همام يتهم هؤلاء في وطنيتهم، متغاضياً بضمير مستريح عن كل الملابسات والظروف الاستثنائية التي رافقت تحريرها؟ وهل من شجاع ينكر على هؤلاء الدور الوطني التاريخي الذي اضطلعوا به في قيادة الشعب المصري نحو التحرر من الاستعمار الفرنسي؟. ومن عجائب اساليب قراءة التاريخ لدى هذا الفريق هو كيفية تناولهم لعامل الصدفة، فهم ينكرون امراً حدث بفعل الصدفة. وعلى رغم اننا نشاهد بمتعة بالغة الافلام الاميركية التي تعد الصدفة فيها اهم محرك للاحداث ودافع لتطورها، الا ان صدفة اكتشاف الفرنسيين لحجر رشيد تطيح بأي اهمية لهذا الحدث وللآثار الهائلة التي ترتبت على هذا الاكتشاف، ويشتط البعض فيسمى هذه الصدفة: مهزلة رشيد؟. والاكثر ادهاشاً ان يشير البعض في معرض الاستهانة بآثار الحملة الى ان بونابرت اصطحب عند عودته الى بلاده المطبعة معه، وكأن هذه الحقيقة تنفي حقيقة اخرى وهي ان مصر عرفت المطبعة والصحف للمرة الاولى مع وجود بونابرت وحملته، على رغم ان احدا لا ينكر تلك الدروس التي يلقنوننا اياها باعتبارها اختراعاً من عندياتهم، وهي ان بونابرت فعل كل شيء بالطبع خدمة لمصالحه الاستعمارية. وأجدني مضطرة للامتنان للصدفة التي انقذت الهيكل العصري للدولة، الذي عرفته مصر على يد بونابرت، من برلمان وحكومة ومحليات، وانقذت المجمع العلمي وكتاب "وصف مصر" من السنة واقلام اهل الحقيقة المطلقة والقول الفصل. لعقلية الحقيقة المطلقة، بصفتها منهجا في التفكير، اساليبها الخاصة في التأكيد على يقين ما ينطقون به. وليس للموضوعية هنا اي مكان، ولا حتى للانصاف او النظرة الدارسة المتفحصة لوجهة النظر الاخرى التي تقع تحت مقصلة احكامهم. وهكذا، على رغم ان افراد الفريق المؤيد للاحتفال لهم مواقف متباينة من الحملة وطبيعة تأثيراتها اللاحقة على مصر، الا ان فريق المعارضة يضعهم جميعا في سلة واحدة من هذه القضية، ليفضي ذلك الى اعتبار ان كل مؤيد للاحتفال هو مؤيد للاحتلال الفرنسي لمصر. وهم ينتقون رأياً لأحد أفراد الفريق المؤيد للاحتفال ليعممونه على الجميع، فاذا نادى احد باستغلال فرصة الاحتفال لتطوير السياحة، قالوا: انهم فريق تطوير السياحة على حساب الذاكرة الوطنية لاحظ فخامة التعبير. وهم يعمدون حيناً آخر لنزع بعض العبارات من سياقها، للتأكيد، افتراء، على موقف مختلف تماما، انهم يبتسرون، يقتطعون، يختصرون، يعممون، يلوون اعناق الحقائق للتدليل على صحة ما ينطقون به. وفي هذه الاثناء لا يكلف بعضهم نفسه حتى عناء قراءة، اقول مجرد قراءة، وجهة النظر الاخرى، فيخلطون بين الاعمال مؤلفيها والآراء واصحابها على نحو يدعو للاسف. وعلى سبيل المثال لا الحصر ادعى احدهم على الدكتور رؤوف عباس تأليف كتاب "الجذور الاسلامية للرأسمالية" لصاحبه الفرنسي بيترا جرا، في حين ان هذا الكتاب هو أهم شواهدهم واسلحتهم لنفي الآخر. وعدا ذلك يلاحظ على كتابات هذا الفريق طغيان العاطفة والحماسة، وهم يلجأون، لاقناع القارئ، الى الكلمات الرنانة من نوع "الذاكرة الوطنية"، ويتسلحون بمبدأ التكرار وتسول مشاعر القارئ، وهم يكررون عبارات ومعاني بديهية، لكنها دوما ساخنة، تكرارا سقيما مع تزويدها بشحنات عالية من العواطف الملتهبة استحسانا او استهجانا للموضوع الذي يتناولونه. وهم ينزعون حينا الى اغراق القارئ في دوامة من التفاصيل تنسيه جوهر الامر والاطار العام له، والاستفاضة في شرح بديهيات ممجوجة للمزايدة والابتزاز مثل: هل نحتفل باحتلال بلادنا؟ وهنا يتوقعون من الفريق الآخر ان يطأطىء الرأس في استحياء وارتباك طفل افحموه، صادا التهمة عن نفسه: بالطبع لأ. ونجدهم حينا اخر، واذا اعيتهم الحيلة، يقفزون قفزا على تفاصيل مهمة لا تكتمل من دونها الصورة، المهم في نهاية المطاف هو اطلاق احكام قاطعة للتنفيذ الفوري. واخيراً، يعمد هؤلاء الى وضع الامور على طرفي نقيض: اما اسود او ابيض، اما معي او مع عدوي. ذلك المنهج الكريه في التخويف والتخوين، جعلهم يطلقون على مؤيدي الاحتفال عملاء - انهزاميون - تابعون - من الطابور الخامس - متفرنسون - فرنفكوفونيون - طماعون - انتهازيون - يتطلعون الى اي مكسب حتى لو كان تذكرة سفر مجانية الى فرنسا، تلك للاسف، وبالنص، بعض الاوصاف التي اطلقوها من دون حرج على مؤيدي الاحتفال. وعلى هذا النحو اوقعنا هؤلاء في معمان معركة من معارك القرون الغوابر تدار بالمنجنيق والتروس. وطالعونا بعشرات المقالات الملتهبة بنيران معارك ضروس، وعشرات الردود المصفحة، والكلمات التي كأنها صادرة من فوهة مدفع. ولم يتوان هؤلاء عن ايراد كل صنوف الشتائم من قواميس السب والقذف، بل توجيه الاتهام بالخيانة الوطنية لكُتاب ومؤرخين وشعراء افاضل ذنبهم الوحيد انهم تصدوا دوماً لجحافل العصور الوسطى، واسهموا بقسط وافر في تنوير العقل العربي. وجوهر الامر ان هؤلاء يصادرون بكل السبل اي جديد، اي اجتهاد، او بالاحرى اي رأي مخالف لهم، وتكتمل الصورة بؤساً حين يعتبرون انفسهم تجلياً للحقيقة المطلقة التي ينطقون بها، اذ انهم بذلك يمارسون، جهاراً نهاراً، ارهاباً فكرياً منقطع النظير، يستوي تماماً مع الارهاب المسلح، فأنت اما معهم او انت عدو يقاتلونك بلا هوادة. وبوضع الامر على هذا النحو، يمثل هؤلاء رصيداً فكرياً لجماعات الارهاب المسلح، انهم جماعات المصادرة والتحريم والجريم والاغتيال الفكري. ولن اندهش اذا تراجع بعض مؤيدي الاحتفال، او صمت بعضهم، او خفتت اصواتهم الى حين مخافة مغبة الوقوع في قوائم من يستباح دمه. وكنت اتمنى فتح بعض ملفات تاريخنا الوطني، وطرحه للمناقشة والحوار، ان يتسم ذلك بقدر من الموضوعية والمسؤولية والجدية والاخلاص والانصاف.