لا تزال الحملة الفرنسية على مصر (1798 - 1801) تشغل بال وفكر الكثير من المهتمين بالدراسات التاريخية والاستشراقية. ولم تدع الجمعية المصرية للدراسات التاريخية تلك المناسبة تمر دون أن تخصص لها أحد مؤتمراتها السنوية. وعلى مدى ثلاثة أيام القيت بحوث مختلفة أبرزت الصفة الاستعمارية للحملة الفرنسية ووضعتها في اطار المشروع الاستعماري الأوروبي، وتناولت بحوث المؤتمر ما سمي بالدور «الحضاري» للحملة، ولم يغب عنها ابراز دلالاتها السياسية من حيث لفت أنظار المصريين والعرب الى عجز السلطة العثمانية عن حماية التراب الوطني من العدوان الأجنبي. وفي الحقيقة فإن الجمعية التاريخية ورئيسها المرحوم د/ رؤوف عباس قد أخذ الجانب المضاد للحملة ولم ير لها أي مردود ايجابي ومع ذلك جاءت اعمال المؤتمر في أحدث مجلد صدر عن الحملة الفرنسية هذا العام بعنوان «مائتا عام على الحملة الفرنسية (رؤية مصرية) من تحرير ناصر ابراهيم في نحو سبعمئة صفحة ومشاركة 20 أستاذاً ومتخصصاً في تاريخ مصر. ورأى د/ ناصر ابراهيم في المقدمة ان المقصود ب «الرؤية المصرية» ليس كما يتبادر الى الأذهان «رؤية ذاتية» تحاول بالضرورة تقديم طرح يناقض الطرح الفرنسي، فذلك بعيد كل البعد من المعنى المقصود في عنوان هذا الكتاب «والأوراق تحاول تقديم طرح علمي دون الاستناد الى قاعدة ايديولودجية، والأفكار المتضمنة في الكتاب لا تمت بصلة الى أي نزعة قومية أو ذاتية، والأمر في الحقيقة لا يتجاوز وقفة من جانب المتخصصين المصريين عند قراءة هذا الحدث. الرؤية هنا تتضمن الموقف من المناهج التي طبقت مراراً في الماضي وذلك من خلال مناقشة اتجاهات الكتابة عن الاحتلال الفرنسي وتحليل الأسس المنهج التي استندت اليها تلك الاتجاهات، كما يأتي الكتاب من منظور أكاديمي مصري في مراجعة ما كتب عن الحملة، بما في ذلك تقديم قراءات نقدية للأعمال الصادرة عن الندوات والمؤتمرات الدولية التي عقدت في الآونة الأخيرة، ونحن نعتقد - محرر الكتاب - بأن الرؤية المصرية المقدمة في هذا المجلد ثرية ومتميزة بدرجة ملحوظة عما سبقها من أعمال منشورة لاعتمادها على أصول الوثائق والمصادر المعاصرة التي لم يتح للرعيل الأول من المؤرخين المصريين الرواد فرصة الاطلاع عليها أو فحصها، كما انعكس تعدد تخصصات المشاركين في المجلد في تنوع الأدوات المعرفية والتحليلية المستخدمة، ولذا نجد في هذا العمل استخداماً لمصادر جديدة ولموضوعات غير معروفة بشكل كاف». ويشتمل الكتاب على محورين: الأول يدور حول الاحتلال الفرنسي كحدث تاريخي، والثاني يقدم النظرة التاريخية للحدث، ففي محور المقاومة دراستان الأولى لنبيل الطوخي عن «وسائل المقاومة في صعيد مصر ضد الحملة الفرنسية» وللطوخي أطروحة دكتوراه حول الصعيد في عهد الحملة الفرنسية - وقد تعددت وسائل أهل الصعيد في مقاومة الفرنسيين ما بين المقاومة الإيجابية المباشرة (المقاومة المسلحة) والمقاومة غير المباشرة وتناولهما الباحث بالتحليل والدراسة لفهم مدى جدوى هذه المقاومة في إفشال مشروع الاحتلال والتعجيل برحيله، أما الدراسة الأخرى فكانت لناصر ابراهيم عن «المباشرون الأقباط والحملة الفرنسية» من زاوية ادارة الأقباط للجباية طيلة فترة الوجود الفرنسي وكانت في يد هؤلاء المباشرين وليس الفرنسيين مقدرات تسيير دولاب العمل بالإدارة المالية، بسبب احتكارهم المصرفي لكل المعلومات المتعلقة بالنظام الضريبي، والذي مثل أكبر تحدٍ واجهته الحملة في الداخل ويمكن القول ان هذه المواجهة كانت بمثابة مقاومة من نوع خاص، جرت وقائعها تحت السطح دون أن تتخذ شكلاً تصادمياً عنيفاً. أما محور الدعاية فتناوله علي كورخان وليلى عنان التي ناقشت في دراستها كيفية توظيف نابليون الفن للدعاية لحملته على مصر وفي الحقيقة فالدراسة مشوقة وجديدة في مصدرها فقد اختارت الباحثة خمس لوحات رأت فيها تجسيداً للأكاذيب التي بنيت عليها اسطورة الحملة، وتشرح الباحثة تلك اللوحات بالتفصيل. جدير بالذكر أن الباحثة تعتبر من أهم الشخصيات المناوئة للحملة والتي لا ترى فيها أي مردود ايجابي كما تزعمت جبهة الرفض مع الجمعية في الوقوف ضد احتفال مصر وفرنسا بمرور مئتي عام على غزو نابوليون. ويتابع علي كورخان الموضوع في بحثه «صورة نابوليون من الدعاية الى الأسطورة بين فرنسا ومصر». فقد حرص نابوليون منذ بدايته العسكرية على ابراز صورته وتسويقها كمنتصر مستخدماً العديد من الوسائط لدعم هذه الأسطورة، وتلك الوسائط وجدت في اللوحات والرسومات الفنية وفي مجال الأغنية وفي مجال الآداب (الشعر والقصة والمسرح) والموسيقى، بل وصل المدى الى فنون الصناعات كتنفيذ مصانع «سيفر» أطقماً من الأطباق والفناجين تسجل عليها تلك الرسوم التي جاءت في كتاب وصف مصر... وبالنسبة الى محور نقد المشروع كان هناك دراستان الأولى لصبري العدل «الحملة الفرنسية وأسطورة نقل العلوم الحديثة الى مصر في القرن 18/ تلقائية التطور والانتقال المفاجئ» والدراسة تبحث عن جذور النهضة التي شهدتها مصر خلال القرن 19 في مجال تطور العلوم العقلية (الطبيعية والتطبيقية) وهل يمكن التسليم ببعض الافتراضات بأن الحملة الفرنسية جاءت ومعها كل أنواع العلوم وبخاصة العلوم التطبيقية بهدف تعليمنا هذه العلوم ولتحدث بعد ذلك نقلة حضارية ظهرت آثارها عقب خروج الفرنسيين من مصر. ويتابع العدل: هل يمكن أن نتصور بأن مصر كانت أيضاً خواء خالية من هذه العلوم العقلية؟ وهل يمكن أن نتصور أن ما جاءت به الحملة من علماء - جاءوا في الأساس لخدمة أغراض سياسية وعسكرية في الدرجة الأولى - في معظم التخصصات العلمية كان بهدف تعليم المصريين هذه العلوم؟ وبعد عرض مطول لفكرته يصل الى أن الحملة على مصر كات بريئة تماماً من فكرة التحديث في مجال العلوم الطبيعية وهذا يصب في الهدف الأساسي من وراء تلك الندوة التي أقامتها الجمعية التاريخية ورئيسها الذي أَمتَعَنا بدراسته عن «مشروع قناة السويس بين الحملة ودي ليسيبس». وفي الاتجاه نفسه كانت دراسته تتمحور حل الانتقاص من كل ما يمت الى فرنسا والحضارة الغربية وكان التطبيق على دي ليسيبس ومشروعه، وسنده في ذلك غريب جداً الا وهو ان المؤرخين المصريين الذين أرخوا تلك الفترة ومشروع دي ليسيبس لم يكونوا على دراية باللغة الفرنسية لقراءة مصادر تلك الفترة، وبالتالي فإن الصورة السلبية التي استقرت في أذهان المؤرخين المصريين مردها الجهل بالفرنسية، والتأثر بكتابات الإنكليز المعادية لدي ليسيبس، ثم يتنقل الى مشروع القناة باعتباره حجر الزاوية في بحثه. مديحه دوس تقدم في بحثها «الأوامر والمنشورات ثنائية اللغة زمن الحملة الفرنسية» بعض الملاحظات حول الوثائق الفرنسية الصادرة باللغتين العربية والفرنسية وتقوم الملاحظات حول محورين، الأول في وصف وتحليل الأشكال اللغوية العربية الممثلة في تلك النصوص، ثم في المحور الثاني بعض الملاحظات حول المترجمين الذين صاغوا هذه الأوامر والبيانات الى العربية وكذلك وضع اللغة الوسيطة في هذه الفترة. وزودت الأستاذة دوس بحثها بمجموعة مصورة من تلك المنشورات والأوامر الأصلية. الدراسة الأخرى مرتبطة بالأولى وكانت من نصيب تلميذة مديحة دوس. الباحثة داليا علي محمد التي تناولت موضوع «دراسة لغوية لسبعة منشورات صادرة باللغتين الفرنسية والعربية 1798 - 1801 وتحاول الورقة تقديم دراسة لغوية لسبع وثائق فرنسية وعربية نشرت أثناء الحملة وكلها تمثل صورة مطابقة لما خطه الفرنسيون باستثناء وثيقتين مدونتين بالفرنسية للجنرال بونابرت لم تتمكن الباحثة من ايجاد أصل هاتين الوثيقتين، ولكن تم رصدهما في أحد المصادر التاريخية المعاصرة المكتوبة بالفرنسية، وتقوم هذه الدراسة اللغوية على معالجة ثلاثة محاور: 1 - اشكالية الترجمة. 2 - ازدواجية اللغة. 3 - الأخطاء الشائعة في ترجمة المنشورات سواء على المستوى الإملائي أو على المستوى النحوي. ان النتيجة التي يمكن الخروج بها من هذه الورقة هي ان الترجمة من الفرنسية الى العربية واجهت صعوبات ليست بالهينة، ما انعكس بوضوح في ضعف التركيبة اللغوية المستخدمة في الترجمة وبالقدر نفسه في الغموض الذي غلف مجمل النصوص المترجمة، والتي سببت في كثير من الأحيان صعوبة في فهم المصريين آنذاك مضمونها، ولهذا اضطر الفرنسيون في بعض الحالات الى اعادة ترجمة بعض المنشورات مرتين. في المحور ذاته كانت ورقة د/ مها جاد الحق «قراءة نقدية لترجمة كاردان لحوليات الجبري ونقولا الترك حول الحملة الفرنسية» وتتناول كيف ترجم كاردان نصيهما الى الفرنسية؟ ولماذا حرص على تقديم ترجمة النصين في كتاب واحد للقارئ الفرنسي. والى أي مدى يمكن اعتبار النقل من اللغة العربية الى الفرنسية قد تم تحقيقه، وهل يمكن التكلم عن خطابين مختلفين؟ وعن ايديولوجيتين؟ وماذا تعني التشوهات التي طرأت على النص؟ والى مدى يمكن من طريق هذه الترجمة معرفة طبيعة العلاقات بين الشرق والغرب في دراسات القرن التاسع عشر؟ وللإجابة على هذه التساؤلات كان على الباحثة أن تعقد مقارنة بين النصين العربيين والترجمة الفرنسية لهما، وهذا ما حدث. - المحور الخامس: تناول دراسات لمنال خضر بعنوان «وصف مصر: نظرة الآخر (الدولة الحديثة) «ولمها جاد الحق «لوحات الدولة الحديثة في كتاب وصف مصر دراسة تحليلية للصورة» ويحاول بحث منال خضر عرض أهم المحاور التي تناولتها أطروحتها للدكتوراه وموضوعها: وصف مصر: نظرة الآخر (الدولة الحديثة) «والأطروحة في جزءين الأول يعالج اشكالية لماذا تم اختيار مصر في هذا التوقيت بالذات؟ وما هي الملابسات التاريخية والمذاهب الفكرية التي دفعت الحركة السياسية؟ ثم من هم المؤلفون؟ وما موقفهم الأيديولوجي من مشروع الكتابة. كما عالجت الدراسة المبررات السياسية التي تشدّق بها الفرنسيون آنذاك للاستحواذ على مصر وعالج الجزء الثاني من الأطروحة الأسباب التي جعلت من هذا النص وثيقة تاريخية مهمة من خلال الإجابة على سؤالين: كيف تم الوصف؟ ولماذا كان الوصف بهذه الكيفية؟ أما مها جاد الحق فعرضت في دراستها جزءاً من رسوم كتاب «وصف مصر» التي تكاد تكون صوراً دقيقة فوتوغرافية وهي فكرة نقرأها مثلاً في كتاب زينات البيطار عن الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي، وهل هي حقاً كذلك؟ والى أي مدى يمكن اعتبارها صوراً فوتوغرافية. أما دراسة هناء فريد عن «رفض الآخر والرفض المضاد/ تحليل خطابي لتاريخ الحملات الفرنسية على مصر للضابط الفرنسي هووية» فهي عبارة عن وثيقة تحمل اسم الحملة على مصر وهي محفوظة في دار الوثائق القومية. وتحوي تأريخاً للحملات الأربع التي قام بها الجيش الفرنسي بقيادة نابوليون على مصر وسورية كتبها الضابط هووية حيث استخدم اليوميات التي كان يدونها أثناء وجوده في مصر مؤكداً أن كل ما يقدمه حدث بالفعل، وملخص هذه الحقيقة وفقاً لروايته، هي أن الجيش الفرنسي قد أتى الى مصر ليخلصها من الاستبداد وليعيد اليها مجدها السابق، ويتضح من خلال تحليل الباحثة لخطاب هووية أنه اتبع عملية خطابية أنتجت في النهاية نصاً موجهاً رغم ادعائه، يعوزه الحياد التاريخي وينتمي الى الخطاب الايديولوجي. وحظيت رحلة دينون الى مصر بدراستين مهمتين الأولى لعايدة حسني «قراءة سيميو طيقية لبعض لوحات قسم الآثار في كتاب وصف مصر ورحلة فيفان دينون» والآخر لرغدة أبو الفتوح «قراءة في رحلة فيفان دينون/ رحلة في مصر السفلى والعليا خلال حملات الجنرال بونابرت». ونظراً للمساحة المعطاة لي فسوف آتي الآن على بقية أسماء الدراسات التي يذخر بها هذا المجلد المهم. ففي محور «في المناهج» تتناول فريدة جاد الحق موضوعاً مهماً عن «الحملة الفرنسية في الخطاب التاريخي الفرنسي (نموذج الكتب المدرسية للمرحلة الابتدائية) 1945 - 1969»، وهذا البحث جزء من المادة التي تم تحليل مضمونها، وذلك في اطار دراسة موضوع رسالة الدكتوراه للباحثة من آداب القاهرة عام 1997. ولهناء فريد دراسة مكملة عن «الحملة الفرنسية في الخطاب التاريخي المصري - دراسة تحليلية لمناهج مادة التاريخ في المرحلة الإعدادية 1960 - 2006». محور آخر هو «اتجاهات التفسير»، درست من خلاله جيهان القاضي «صورة المصريين والفرنسيين أثناء الحملة الفرنسية عند بعض المؤرخين المصريين والفرنسيين خلال حكم الملك فؤاد الأول»، ولمحمد صبري الدالي «اتجاهات في تفسير نتائج الاحتلال الفرنسي لمصر - دراسة في نماذج من كتابات المؤرخين الفرنسيين والأميركيين والمصريين» وهو بحث في منتهى الأهمية. «في المنظور المصري المعاصر» عنوان لأحد المحاور المهمة تناول موضوعات مثل «محصلة متعارضة وجهة نظر المؤرخين المعاصرين» لعبدالرزاق عيسى ورمضان الخولي، «والحملة الفرنسية: الوعي بالتاريخ من خلال الآخر» لمحمد اسماعيل زاهر. أما محور «حقيقة الصدمة» فيتناول فيه رؤوف عباس «صدى الحملة الفرنسية»، وعاصم الدسوقي «الفرنسيون في مصر واستثارة العقل» ومجدي عبدالحافظ «صدمة الحملة الفرنسية وطبيعة العلاقة المعقدة مع المصريين. مقاربة تاريخية ونفسية». ونتابع في المحور الأخير «قراءة نقدية» لليلى عنان «نابوليون والفرنسيون في مصر والأراضي المقدسة قراءة نقدية» وأيضاً «الحملة على مصر: مشروع تنويري» ولفيليب بوردان «الحملة على مصر مشروع تنويري قراءة نقدية» ولصادق نعيمي «حملة بونابرت من منظور مصري». أخيراً يمكن القول ان معظم الإسهامات في هذا الكتاب تشير الى رفض قاطع لقبول تفسير الاحتلال الفرنسي على مصر في ضوء «نظرية الاستعمار الإيجابي» أو التعامل معها على أنها «مشروع تنويري»، كما أوضحت الاسهامات كذلك رفض هيمنة الخطاب الفرنسي (الانتقائي) الذي ساد الكتابة عن الحملة لعقود طويلة، بيد أن الأوراق تؤكد من ناحية أخرى أن الحدث لم يمر على المصريين مروراً عابراً دون أن يترك آثاراً معينة غير مباشرة جعلت المصريين يدركون حقيقة تخلفهم وضرورة سد الفجوة الفاصلة بينهم وبين الغرب على أن بعض وجهات النظر في هذا الكتاب تعارض هذه النتائج وتتمسك بأن الاحتلال الفرنسي كان «صدمة حضارية وثقافية» ولا ريب ان تعدد وجهات النظر وتقاطعها أو تناقضها عبر تلك الأوراق انما يبرز سمة أساسية في نظرة المصريين الى الحدث. * كاتب مصري.