رغم نجاح كوفي انان، الأمين العام للامم المتحدة، في حل بعض خيوط العقدة العراقية - الاميركية التي عرفت بأزمة المفتشين الدوليين حسب التعبير الدولي، وأزمة القصور الرئاسية وفقاً للاستخدام العراقي الرسمي، ودامت بضعة شهور، إلا ان هاجس اندلاع أزمة جديدة ظل مخيماً على الاجواء وفقاً لتكهنات وتقديرات المحللين والمعلقين السياسيين، لأسباب تتعلق بطبيعة الصراع وسيناريوهات اخراجه. مرة اخرى، تندلع الأزمة ويشهد العالم بوادر تصعيد جديد. ومثلما في كل الأزمات، كانت سياسة شفا الحفرة هي السائدة. فمن جهة تلوح بغداد بأن صبرها نفد وانه على رغم تطبيقها للاتفاق بين كوفي انان - طارق عزيز، فإن الولاياتالمتحدة ما زالت تماطل وتضع العقبات أمام رفع الحصار وتشكك في مهمة بتلر. ومن الجهة الأخرى تهدد الولاياتالمتحدة بضربة عسكرية للعراق وتتوعد من مغبة أي عمل من شأنه ان يؤدي الى انفجار الأوضاع مشددة على ضرورة امتثاله لجميع قرارات مجلس الأمن الدولي. كلما كان صوت الأزمة يعلو تنقسم المعارضة العراقية، بين مؤيد بلا حدود، وموافق باشتراطات ومعارض خجول وبين من يعتبر ذلك عدواناً جديداً لا مبرر له، مثل الموقف من الحصار الدولي، الذي يوجد من يدعو لاستمراره وتشديده لتقويض نظام الحكم، وبين من يريد رفعه بشروط، وبين من يرفضه ويعتبره سلاحاً من أسلحة الإبادة الجماعية الشاملة. عندما تبدأ قعقعة السلاح وتطل الكاثة الجديدة برأسها، لا أحد يتذكر القرار 688 القاضي بكفالة احترام حقوق الانسان والحقوق السياسية لجميع المواطنين، هذا القرار المنسي أصلاً والمؤجل الى أجل غير مسمى هو أقرب منه الى التجميد فعلياً. الصوت الذي ظل يستذكر القرار الدولي ويعتبره سابقة خطيرة بخصوص مرجعية حقوق الانسان، كمبدأ آمر ملزم في القانون الدولي، هو جهات وجماعات ومنظمات حقوق الانسان، وان كان بدرجات متفاوتة. ويعرب فان دير شتويل، المقرر الخاص للجنة حقوق الانسان التابعة للامم المتحدة في تقريره السنوي الذي يقدمه في جنيف، عن أمله سنوياً في امتثال الحكومة العراقية للقرار 688 الصادر في 5 نيسان ابريل 1991. ظلت الحكومة العراقية ترفض هذا القرار جملة وتفصيلاً، على رغم انها سلمت بجميع قرارات مجلس الأمن المجحفة والمذلة وخصوصاً القرار 687 المعروف بپ"أبو القرارات" وهو أغرب وأطول قرار في تاريخ المنظمة الدولية، فرض التزامات وعقوبات وتبعات على العراق ومستقبله وارتهن موارده لآجال طويلة وجرح كرامته الوطنية وعوّم سيادته وفرض عليه تعويضات خيالية. ومثلما رفضت بغداد القرار 688 فإنها رفضت وبإصرار شديد مهمة فان دير شتويل التي لم تعترف بها أصلاً. وتلك إحدى مفارقات الوضع العراقي الذي يقدم التنازل تلو التنازل الى مجلس الأمن والولاياتالمتحدة، لكنه يرفض ويستنكر تقديم أي تنازل للمواطن العراقي، سواء جاء ذلك عبر القرار الدولي 688 أو بوجود حاجة فعلية لتغيير النظام الدستوري والسياسي في العراق باتجاه احترام حقوق الانسان والإقرار بالتعددية وتداولية السلطة سلمياً وحق الشعب في اختيار ممثليه. المفارقة الأخرى تأتي من مجلس الأمن والاممالمتحدة. فعلى رغم اصرارها على زيارة اكيوس وفريق التفتيش ومن بعده بتلر وتصعيد الأزمة بحجة عرقلة الحكومة العراقية لمهمات التفتيش وحشد الجيوش والبوارج الحربية والطائرات والتهديد بإنزال ضربة عسكرية "نظيفة" كما تدعي للتخلص من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية والجرثومية، التي يمتلكها العراق لا ندري متى سيتم انتهاء مهمات التفتيش بعد ان دخلت عامها الثامن في ظل حصار أخذ يطحن آدمية الانسان قبل عظامه في وطن تحول الى "معسكر لاجئين كبير" حيث يموت فيه الأطفال بلا رحمة وبلا أي قدر من عذاب الضمير. ان تضاريس الحزن الحقيقية والمعاناة المزدوجة والمركبة واهمال مجلس الأمن تطبيق القرار 688 اسوة ببقية القرارات الأخرى، التي يصر على تطبيقها بحذافيرها، تستوجب السؤال: لماذا لا يذهب مجلس الأمن و"الشرعية الدولية" بعد ان وضعت العراق وشعبه بين المطرقة والسندان وفي ظل نظام أشد وطأة من نظام الوصاية الدولي، لحمل بغداد على اجراء انتخابات حرة نزيهة بإشراف الاممالمتحدة أو أية جهة معتمدة وبمشاركتها، مثلما حصل في نيكاراغوا وكمبوديا وانغولا والسلفادور وجنوب افريقيا، لكي يتمكن الشعب من اختيار ممثليه الحقيقيين، خصوصاً بعد ان وصلت جميع الجهود الى طريق مسدود، فيما تستمر الكارثة الانسانية بكل بشاعتها ورعبها، ولعل ذلك ما يمكن استنتاجه من منطوق القرار 688. وعلى رغم ان القرار 688 كان قانوني الصياغة، سياسي المحتوى، انساني الوجه الا انه جاء مبهماً وغامضاً وأدنى حجية من القرارات الاخرى التي سبقته أو لحقته، زادت على الثلاثين قراراً، فلم يصدر ضمن الفصل السابع الخاص بباب العقوبات. ومع انه قرار ملزم كأي من قرارات مجلس الأمن، الا انه لا يتطلب اتخاذ اجراءات عقابية لتنفيذه، وهو ما يثير جدلاً مشروعاً فقهياً وفكرياً وسياسياً حول صدقية مجلس الأمن في اتخاذه فضلاً عن عدم كفاية آليات تنفيذه وكذلك التوازنات القلقة التي دفعت الى اتخاذه في ظرف انساني بالغ الدقة حيث شهد العالم أجمع وعبر شاشات التلفاز مشاهد الهجرة الجماعية المرعبة إثر فشل الانتفاضة الشعبية في العراق. ظل القرار 688 "يتيماً" لأنه لا يوجد هناك من يرعاه أو يهتم به على نحو جدي أو يكون "مسؤولاً" عن تنفيذه. وظل "تائهاً" في دروب المساومات والمصالح الدولية وذاتية وقصور وجهات النظر السياسية، بما فيها لبعض أطراف المعارضة في حين يعد القرار الوحيد الذي انتصر للشعب العراقي. سبق لفان دير شتويل ان وصف الوضع الانساني في العراق بأنه "استثنائي" ويتطلب "اجراءات استثنائية" لمعالجته. وقبل أيام قدم تقريره السنوي في جنيف مشيراً الى القرار 688 الذي ظل منسياً في حين يستمر زحف الكارثة الانسانية حثيثاً ويهدد الانسان بالافناء والتبديد ويبدو المستقبل أكثر قتامة وحزناً. أليس من سبيل لوضع حد لهذا النزيف الانساني؟ وهل سينفض المجتمع الدولي الغبار عن القرار 688 ويدفع خمول الضمير؟