لا شك ان قراء "الحياة" يعرفون حماسة الأميركيين لما يسمى "كذبة نيسان"، عندما تعطي وسائل الاعلام نفسها يوما للراحة من ملاحقة السياسيين وتقصّي الاعيبهم لتركز على النكات والمقالب التي يحفل بها اليوم الأول من كل نيسان ابريل. ويبلغ من قوة التقليد ان الرئيس بيل كلينتون نفسه، عندما اخبروه مطلع الشهر ان المحكمة قررت صرف النظر عن الدعوى التي اقامتها ضده بولا جونز، اعتقد اولاً أنه يتعرض الى "كذبة نيسان". لكن الحدث الآخر أول الشهر الجاري كان موافقة اسرائيل، التي تأخرت عشرين سنة، على قرار مجلس الأمن 425، واشارتها الى الاستعداد للانسحاب من جنوبلبنان. لكنها وضعت شرطاً على ذلك، وهو دخول لبنان في محادثات مع اسرائيل على ترتيبات أمنية للجنوب اضافة الى تعهد لبناني بتأمين حدود اسرائيل الشمالية. بدا الرئيس اللبناني الياس الهراوي، في ردّه على الموقف الاسرائيلي، وكأنه يأخذ في الاعتبار توقيت اسرائيل للإعلان عنه، أي أنه "كذبة نيسان" لا أكثر. إذ أكد على ان ليس في القرار سوى طلب انسحاب اسرائيل الفوري، من دون أي شروط على لبنان. قد يبدو هذا الموقف غريباً بالنسبة الى ملايين الأميركيين الذين لا يعرفون الكثير عن تعقيدات سياسة الشرق الأوسط، لأن الطرف اللبناني يظهر كأنه يرفض تحقيق مطلب يطرحه بإلحاح منذ صدور القرار. ولا شك ان المهتمين اعتبروا ان التفسير الوحيد له هو انه يعكس طريقة لبنان في الاحتفال بالأول من نيسان! ما يجهله الأميركي العادي هو خفايا الديبلوماسية السورية، التي تصر على اعتبار جنوبلبنان وسيلة لاستعادة الجولان من اسرائيل يوماً ما. اذ ترى دمشق حالياً ان عليها ربط الانسحاب من جنوبلبنان بانسحاب مماثل من الجولان، وتعتبر خسائر اسرائيل البشرية في الجنوب ورقة الضغط الوحيدة المتاحة. ما ليس واضحاً في الموقف السوري هو كيفية الربط في ذهن الناخب الاسرائيلي بين العنف في الجنوب والانسحاب من الجولان، لكن الواضح ان سورية قادرة على ان تضمن من قادة لبنان اخذ مصالح دمشق ومنظورها في الاعتبار. من جهتها حرصت اسرائيل، مهما كانت نياتها الحقيقة، على توجيه رسالة تبدو معقولة في اليوم الثاني من الشهر: "كل ما نريد ان نغادر بسلام ونبقى على جهتنا من حدود آمنة، لكن لبنان يرفض حتى الكلام في الموضوع. كيف يمكن أن نتأكد ان انسحابنا لا يفتح الباب أمام أعمال ارهابية عبر الحدود من دون تنسيق وتعاون مع الجيش اللبناني؟". بالمقابل كانت الرسالة اللبنانية: "ليغادروا ونرى ما سيحصل!"، وهو ما قد يعتبره المراقب العادي مكابرة ليس الا. الواقع ان لموقف لبنان مبررات لا بد من احترامها، أولها ان على اسرائيل، بعد "الموافقة" على القرار 425، أن تقرأ القرار. ذلك انه ينص بوضوح على الجهة المنفّذة، وهي قوات الأممالمتحدة يونيفيل، التي شُكّلت "بهدف ضمان انسحاب القوات الاسرائيلية واعادة السلام والأمن الدوليين ومساعدة حكومة لبنان على ضمان عودة سلطتها الفاعلة الى المنطقة". هكذا فإن على اسرائيل، اذا ارادت الانسحاب من جنوبلبنان حسب متطلبات القرار، الاتصال ب "يونيفيل" لإعلان رغبتها وعرض خططها. ربما كان الأفضل لساسة لبنان ان يردوا على مبادرة اسرائيل بصوت واحد، موجهين رسالة مؤداها أن لبنان "يرحب بقبول اسرائيل المتأخر بالقرار. ان القرار 425 يدعو اسرائيل الى الانسحاب الفوري من كل أراضي لبنان، وان تقدم كل مساعدة ممكنة الى الأممالمتحدة لضمان تنفيذ سريع وشامل للقرار. لهذه الغاية، يعلن قائد القوات المسلحة اللبنانية استعداده للتعاون الوثيق مع قائد قوة "يونيفيل" لضمان استعادة السلام والأمن الدوليين وعودة سلطة حكومة لبنان الفاعلة على كل جنوبلبنان". نلاحظ ان غالبية التعابير والكلمات مستقاة من نص القرار 425. لم يكن من المناسب لرد الفعل اللبناني المعلن أن يتخذ طابع التعليق السياسي السريع، بل كان الواجب اخضاع نيات اسرائيل للامتحان في شكل جدي ومنظم. ولو دعا لبنان اسرائيل الى قراءة نص القرار والتوجه الى "يونيفيل" لكان احتفظ بخياراته وحافظ على هيبته. أما اسرائيل فكانت وقتها، بدل تهنئة نفسها على جعل جارها يظهر بمظهر الأحمق، وجدت نفسها أمام خيارين، التوجه الى "يونيفيل" أو الاعتراف أن الأمر كله لا يعدو "كذبة نيسان". هل يمكن ان يكون رد الفعل اللبناني مقصوداً، بهدف الحيلولة دون أي محاولة جدية من اسرائيل لتنفيذ القرار 425؟ اذا كان الأمر كذلك فهو الأخير في سلسلة لا نهاية لها من الخطوات التي تبدو كأنها لا تعطي أولوية تستحق الذكر لمصلحة سكان جنوبلبنان. إن من شأن سورية أن تمارس في جنوبلبنان سياسة نتيجتها الواضحة منع أي رئيس وزراء اسرائيلي ليس نتانياهو فقط بل اي رئيس وزراء من التوجه الى الناخبين مقترحاً إعادة الجولان الى سورية. ان لدمشق، مثلما لواشنطن، كامل الحق في اتخاذ السياسات الخاطئة! لكن على لبنان رغم ذلك، وأخذاً في الاعتبار ان ادامة العلاقات الجيدة مع سورية تأتي على رأس اولوياته الديبلوماسية، ان يحافظ على سمعته الدولية. هذا يعني أن على لبنان التعاون في شكل كامل ومفتوح في حال اتخاذ اسرائيل الخطوات الصحيحة كما يرسمها القرار 425، أي اخطار "يونيفيل" بنية الانسحاب واعطاء القوة الدولية جدولاً زمنياً بذلك. ومن بين ما يعنيه هذا، شئنا أم أبينا، ضمان عدم انطلاق "اي عمل حربي او عدائي" حسب نص اتفاق الهدنة في 1949 من أراضي لبنان ضد اسرائيل. ماذا سيكون موقف بيروت اذا ثبت ان اسرائيل جادة في ما يخص الانسحاب؟ انها قضية يجب ألا تترك على مستوى "كذبة نيسان"، لأن هناك شعباً في الجنوب يتعرض منذ عقدين للموت والدمار ويستحق محاولة انقاذ جادة. اذا كان لشعار "اعادة الإعمار" الذي ترفعه حكومة لبنان ان يتعدى شق الطرق وانشاء المباني، فلا شك ان تلك الحكومة ستقوم بواجبها تجاه الجنوب.