في 1996 اقترحتُ في مقالة في "الحياة" وصحف غيرها تناولاً جديداً لمشكلة جنوبلبنان، يركز من جهة على احترام العلاقة اللبنانية - السورية، وفي الوقت نفسه على القيام بعدد من الاجراءات الأمنية التي تسهّل على اسرائيل القيام بانسحاب سريع وكامل من الأراضي اللبنانية. على ان يأتي ذلك ليمهد لاعادة المحادثات على المسار السوري - الاسرائيلي، على اساس الانسحاب الاسرائيلي الكامل من الأراضي السورية. وكان بين عناصر الاقتراح تشجيع سورية، نظراً للدور الحاسم الذي تلعبه حالياً في لبنان، على تعيين ضباط اتصال يرافقون الوحدات اللبنانية التي تنتشر في الأراضي بعد انسحاب الاسرائيليين منها. المؤسف ان بعض الدوائر اللبنانية والسورية اعتبر الاقتراح وقتها نسخة محورة عن خيار "لبنان أولاً"، الذي كانت اسرائيل تطرحه وقتئذ ك"بالون اختبار". وادينت فكرة التعاون اللبناني - الاسرائيلي - السوري باعتبار أنها تستبق معاهدات رسمية للسلام مع ان هدفه هو وقف النزف في جنوبلبنان، كما اعتبرت تلك الفكرة "مؤامرة" لتخريب التضامن اللبناني - السوري وحرمان سورية من "ورقتها الوحيدة" للضغط على اسرائيل واستعادة الجولان. لكن وزير الدفاع الاسرائيلي اسحق موردخاي طرح في الثاني من كانون الثاني يناير الماضي، في مقابلة مع صحافي عربي، ما مؤداه ان سحب قوات اسرائيل من لبنان ممكن من دون اتفاق سلام منفصل بين الطرفين. وكان رد الفعل اللبناني على المقابلة في مجمله، عدا استثناء جدير بالانتباه، بالغ السلبية. واذا اخذنا المقابلة ورد الفعل خصوصاً من حزب الله سوية في الاعتبار، نتوصل الى ترجيح نتيجتين، هما: اضعاف موقف الاسرائيليين المطالبين بالانسحاب من جانب واحد من لبنان، وابقاء سكان جنوبلبنان رهن قصر نظر الآخرين. هناك بالتأكيد نواقص جدية في طروحات موردخاي، أهمها ان تفسيره للقرار 425، على جدته، خاطىء الى حد كبير. فالقرار يدعو اسرائيل بوضوح الى الانسحاب "فوراً" لاحظ، فوراً من كل اراضي لبنان، ثم يطرح تشكيل "يونيفيل" للتأكد من الانسحاب واعادة السلام والأمن ومساعدة الحكومة اللبنانية على بسط "سلطتها الفاعلة" في المنطقة. اضافة الى ذلك فإن تنديد وزير الدفاع القوي بحزب الله، باعتباره "منظمة ارهابية بالفعل تخدم مصالح اجنبية" لا يمكن ان يكون مشجعاً على رد ايجابي او يمهد في النهاية لحلول الجيش اللبناني محل حزب الله في الجنوب. لكن كما أظهر الرئيس الراحل جون كنيدي في تعامله مع أزمة الصواريخ في كوبا فإن الديبلوماسية الفاعلة تتطلب احياناً التركيز على الجانب الايجابي من الرسالة التي يوجهها الخصم على حساب الجانب السلبي. وكانت هناك بالتأكيد عناصر ايجابية في طروحات موردخاي. فعندما يقول ان "من الواضح ان دمشق تملك مفتاح أي اجراءات سياسية او امنية في جنوبلبنان"، ويركز على جانب "المسؤولية السورية" فهو يعترف ضمناً بافلاس سياسة اسرائيل الانتقامية، التي جاءت بالموت والفوضى الى اللبنانيين والدمار الى ممتلكاتهم. كما ان موردخاي، بدل تهديد سورية، قال ايضاً ان التعاون الأمني لن يسهل انسحاب اسرائيل من لبنان فحسب بل قد "يخدم في بناء الثقة بين اسرائيل وسورية ويفتح باب الحوار ومن ثم عودة الطرفين الى التفاوض". في النهاية حرص رسمياً على "فرقعة" بالون الاختبارالسابق، أي "خيار لبنان أولاً"، بالقول: "اتكلم هنا عن مجرد اجراءات امنية، وليس عن سلام منفصل بين اسرائيل ولبنان". وسواء تكلم موردخاي عن قصد أو من دون قصد فإنه قدم حقيقة أساسية على دمشق ان تدركها، وهي ان جنوبلبنان لا يصلح ان يكون وسيلة في يد سورية لاسترجاع الجولان عن طريق التفاوض إلا من خلال التعاون السلمي. ومن الحمق تماماً، في ظل دور سورية في لبنان، افتراض ان أي زعيم اسرائيلي، وليس فقط نتانياهو، يمكن ان يطرح على الكنيست او الناخبين الانسحاب الكامل من الجولان فيما يستمر العنف في جنوبلبنان. فلبنان قد يكون فعلاً "ورقة" سورية للعودة الى التفاوض على اساس الانسحاب الكامل من الجولان - ولكن ليس بالشكل الذي تتصوره دمشق عادة. عند تناول ردود الفعل العلنية من ساسة لبنان على كلام موردخاي، لا بد من القول انها مؤسفة في خمولها وروتينيتها، وان الأمل الوحيد هو ان تكون ديبلوماسيتهم غير المعلنة اكثر ذكاءً. اذ ان ادعاء الجميع ان المطلوب يتلخص في ان تسحب اسرائيل قواتها من جنوبلبنان، يعني في واقعه دعوة اسرائيل الى البقاء هناك الى أجل غير منظور. ولا شك ان "يونيفيل"، التي طلبت حكومة لبنان اخيراً التجديد لها، ستنظر بأشد ما يمكن من الانزعاج الى انسحاب اسرائيلي سريع من دون تنسيق، وستصر عندئذ على ان يلعب الجيش اللبناني دوراً كبيراً في تأمين الحدود مع اسرائيل. وكما ان تفسير موردخاي للقرار 425 يخدم مصالح اسرائيل فإن المسؤولين اللبنانيين بدورهم لا يبدون مهتمين بفقرة في القرار تنص على "اعادة السلام والأمن الدوليين"، وما يعنيه ذلك من مسؤولية حكومة ومواطني لبنان في هذا السياق. ولا شك ان العماد لحود نفسه يعرف ان حلول الجيش اللبناني و"يونيفيل" محل القوات الاسرائيلية وتأمين الحدود مهمة عسكرية معقدة تتضمن اجراءات متفق عليها كتابياً وتنسيقاً مباشراً بين الأطراف. اذا كان لتكتيك كنيدي في ترجيح الجانب الايجابي أي علاقة بمقترح موردخاي ورد الفعل اللبناني عليه، فإن هناك بعض الأمل في كلمة رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الى مجموعة من الأميركيين العرب. إذ قال في مجال تأكيده التزام لبنان القرار 425 ان "الاجراءات الأمنية" الوحيدة التي تتعلق بجنوبلبنان هي تلك التي ينطوي عليها اتفاق الهدنة العامة المعقود في 1949. لا شك ان الرئيس بري يعرف ان اتفاق الهدنة لا ينص على اي حضور للأمم المتحدة في جنوبلبنان يتجاوز عدداً من نقاط المراقبة الحدودية، كما يفرض قيوداً قاسية على الحضور العسكري اللبناني، عدداً وعدة، في مناطق الحدود. هذه القيود المفروضة في 1949 تحول الآن، في 1998، دون امكان الجيش اللبناني القيام بمهمة تأمين الجنوب. لكن يمكن ان يكون هدف الرئيس بري القول ان اتفاق الهدنة هو السياق المناسب للتطبيق الكامل للقرار 425. التفاعل الرسمي - اللبناني الأفضل مع مبادرة موردخاي - التفاعل الذي يحافظ على العلاقة مع سورية ويشجع الاسرائيليين الداعين الى الانسحاب ويبرهن على الاهتمام التام بمصالح سكان الجنوب - كان يتلخص بالدعوة الى التفاوض في اسرع وقت تحت رعاية الأممالمتحدة لتعديل اتفاق الهدنة بهدف التمكن من تنفيذ القرار 425. وكان لتفاعل كهذا ان يحسم بسرعة الشكوك في جدية مبادرة وزير دفاع اسرائيل. لكن ما حصل هو ان حكومة اسرائيل تمكنت من احراز انتصار اعلامي سهل على معارضيها في الداخل وعلى حكومة لبنان. فقد بدت ردود الفعل اللبنانية - باستثناء الرئيس بري - خاملة ومفتقرة تماماً الى بعد النظر وعاجزة عن التجاوب مع التحدي الذي طرحه الوزير الاسرائيلي.