أهم انجاز سجل في الانتخابات البلدية والاختيارية اللبنانية التي بدأت في 24 أيار مايو الجاري في محافظة جبل لبنان، وتستمر حتى 14 حزيران يونيو المقبل، هو اجراؤها. ليس فقط لأن 35 عاماً مضت على آخر مرة شارك فيها اللبنانيون في انتخابات مماثلة، وحالت محطات ساخنة دون اجرائها قبل الحرب اتفاق القاهرة عام 1969 وانعكاساته، وصدامات الجيش والفلسطينيين عام 1973، واندلاع الحرب في 1975 واستمرت 15 عاماً. بل ولأن القيمين على مرحلة السلم بدأت عام 1990 الذين نظموا دورتي انتخابات نيابية عامة في 1992 و1996 عدا دورتين فرعيتين، كانوا يؤجلون الاستحقاق البلدي، بذرائع عدة، الى أن أفرجوا عنه أخيراً... من دون أن يدري احد أي غاية كانت في نفس يعقوبهم، في التأجيل وفي الاجراء، علماً ان الانتخابات تحولت مطلباً شعبياً ضاغطاً أملاه وضع البلديات المزري عموماً، واستمراره كان يهدد بعرقلة أي انماء حقيقي موعود. والانجاز الثاني في هذه الانتخابات انها حصلت من دون حوادث تذكر، وان اعترتها شوائب، هي نفسها تتكرر في كل استحقاق انتخابي، من مثل قانون الانتخاب الذي كان ممكناً أن يكون أفضل، ولوائح القيد التي لم تخل من أخطاء، والكلام على تدخلات وضغوط ورشاوى. شوائب قد لا تكون السلطة التنفيذية مسؤولة عنها كلها... فضلاً عن أن العملية الانتخابية سادها جو هادىء أمّنه الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ما أتاح للمقترعين عموماً حرية في اختيار من يرتأون. الى هذين الانجازين، لفت الاقبال الكثيف للمواطنين على صناديق الاقتراع، فبلغت النسبة في جبل لبنان 70 في المئة وفي بعض مناطقه 90 في المئة. وسبب هذا الاقبال، الطابع المحلي والعائلي للانتخابات التي تعني كل مواطن في بلدته أو قريته أو مدينته، وتأثير الصوت الواحد ربما في ترجيح كفة هذا المرشح على ذاك، خصوصاً أنها تجري في دوائر صغرى إذ الكل يعرف الكل. ورفدت هذا الاقبال مشاركة شريحة واسعة من المواطنين، ترشحاً واقتراعاً، كانت قاطعت دورتي الانتخابات النيابية السابقتين، عازية اياها، على لسان قادتها، ومنهم العماد ميشال عون، الى أن الانتخابات البلدية والاختيارية تفضي الى "حكومات محلية" ولا ابعاد سياسية لها تتعلق بالسلطة الحاكمة، فضلاً عن أن المجالس المنبثقة منها قادرة على تسريع عملية انهاض المناطق انمائياً وتعزيز الحياة الاجتماعية والاسهام في تنشيط الدورة الاقتصادية ووقف الاعتداء المتمادي على البيئة. ويوضح احد الناشطين في تيار العماد عون السيد نجيب زوين ان "مقاطعتنا الانتخابات النيابية لم تكن حباً بالمقاطعة، بل احتجاجاً على قانون انتخابي غير متوازن، لا يساوي بين اللبنانيين، ولن يعكس تمثيلاً صحيحاً، ويترك للمعارضة في مواجهة محدلة السلطة، فتات المقاعد، فتتحول بذلك شاهد زور على ما يقوم به الحاكمون". ويؤكد "اننا لم نشارك في الانتخابات البلدية مواجهة للسلطة كي نسجل عليها فوزاً ونحقق مكاسب، بل انطلاقاً من شعار العماد عون ان لكل تغيير بداية. وبالأمس كانت البداية". ويشير الى "أننا عندما تهيأنا لهذا الاستحقاق، كنا نعرف ان ثمة عوامل واعتبارات محلية وعائلية يجب التوقف عندها، وان ثمة تحالفات قد تفرض علينا، في منطقة معينة، وان ثمة اشخاصاً وان كانوا من صلب تيارنا، قد نؤثر عدم ترشيحهم، في أخرى، لمصلحة آخرين من غير تيارنا اذا كان وصولهم يخدم البلدة أو القرية ولا يشكل عامل تحدٍ للعائلات". لكنه يلفت الى "اننا وضعنا سقفاً يمنع مؤيدونا من تجاوزه، وهو الترشح على لوائح السلطة". وهذا ما أدى ربما الى تباين في وجهات النظر - لم يمس التوجه الوطني - بين العماد عون وحليفيه الأساسيين في "التجمع الوطني" الرئيس السابق أمين الجميل ورئيس حزب الوطنيين الأحرار دوري شمعون اللذين كانت لهما حسابات أخرى في مناطق تعتبر مراكز ثقل لهما، فعملا على تعزيز هذا الثقل بتحالفات لم يكن العماد عون ليؤيدها. فشمعون تعاون مع الوزير وليد جنبلاط في دير القمر وعدد من قرى الشوف، لتوظيف هذا التعاون في خدمة قضية حيوية هي عودة المهجرين، علماً ان العماد عون ابدى انزعاجه من هذا التعاون نظراً الى ارتباط الوزير جنبلاط الوثيق بسورية. والرئيس الجميل وجد انصاره، خصوصاً في المتن الشمالي، حاجة الى التعاون في بعض اللوائح مع تيارات وجهات موالية للسلطة، لقطع الطريق على من يعتبرون ان نجاحهم يؤثر في مواقعهم وثقلهم. ويعترف منسق "التجمع الوطني" للانتخابات البلدية مسعود الأشقر بهذا التباين، ويقول أنه أثر سلباً في بعض المناطق. ويوضح "اننا حيث تعاونا، تياراً عونياً ومعارضة كتائبية واحراراً وكتلة وطنية ومعارضين للسلطة، حققنا نجاحاً ساحقاً. وحيث لم نتعاون، أما فشلنا كما في جونيه، وأما خرقت لوائحنا، وأما استطعنا خرق لوائح الآخرين". ويقول الأشقر "على رغم ذلك، يجب الا ننظر الى الانتخابات البلدية نظرة: أبيض وأسود. فللاعتبارات المحلية والعائلية أهمية في هذا المجال، علينا ان نعرف كيف نوظفها، ويمكن اعتبار محطة جبل لبنان تجربة لنا، ينبغي الافادة منها في المحطات المقبلة في الشمال وبيروت والجنوب والبقاع". واذ يقوّم زوين نتائج جبل لبنان بأنها "جيدة"، يقول الأشقر انها "مش عاطلة". ويعددان مناطق عدة حصد فيها "التجمع الوطني" أو مقربون منه أو معارضون للسلطة، نتائج لافتة، ومنها بلديات: بيت مري وسن الفيل وروميه وظهر الصوان وبرمانا وساقية المسك وبكفيا والخنشارة وبسكنتا وبعبدات في المتن الشمالي، وحراجل وغزير والعقيبة وغوسطا ويحشوش وغيرها في كسروان، وفرن الشباك في المتن الجنوبي، ودير القمر والدامور والناعمة في الشوف، وجبيل وعاليه وبعض قراهما وبلداتهما. ولا يخفي الأشقر وزوين ان ثمة عوامل، اضافة الى التباين، ادت الى عدم تحقيق النجاح المرجو، من مثل تدخل رموز في السلطة، وهذا ما شكا منه أيضاً الرئيس سليم الحص، وتهديد ناخبين أو مرشحين في مصالحهم، وهذا ما أثاره كذلك النائب نسيب لحود، واستعمال ورقة المجنسين حديثاً الذين تحولوا "بيضة قبان" في عدد من المناطق، وهذا ما أبلغه العماد عون الى "الحياة" 28 أيار/ مايو 1998. أما حزب الكتلة الوطنية الذي قاطع الاستحقاقين النيابيين فكان لموقفه ترك الحرية لمحازبيه وأنصاره، في الترشح والاقتراع، وفقاً لما يجدونه مناسباً، أثر سلبي، نوعاً ما، في مراكز ثقله خصوصاً في جبيل، مدينة وقضاء. فلم يحقق الانتصار الكاسح الذي كان يعقد لواؤه نيابياً لعميده ريمون اده ولائحته، في دورات عدة متتالية، وحتى مقاطعة عام 1992 اذ سجلت ادنى نسبة مشاركة في الاقتراع. لكن أحد مسؤولي حزب الكتلة في لبنان، تمنى عدم ذكر اسمه، قال ل "الحياة" ان الحزب لا يعتبر نفسه خاسراً أو منتصراً، في النتائج، ما دام ترك الحرية في الترشح والاقتراع. وأضاف "لو شئنا خوض معركة كتلوية لجاءت النتائج مغايرة، الا اننا فضلنا حصر الاستحقاق في طابعه المحلي والعائلي". وأما تيار "القوات اللبنانية" فاستطاع، على مستوى افراد كثيرين، ان يغنم مقاعد في مجالس بلدية عدة، في بعض أقضية الجبل، لكن أحد مسؤولي الحزب المحظور توقع أن يحقق مكاسب اكبر في المحطة المقبلة في الشمال، وخصوصاً في بشري مسقط قائده سمير جعجع. يبقى حزب الكتائب الذي على رغم تراجع دوره في الحياة السياسية، بفعل عوامل عدة، اعادت اليه انتخابات جبل لبنان البلدية والاختيارية حضوره، اذ اوصل الى المجالس البلدية نحو 300 من محازبيه منهم 128 في المتن، هو الذي خاض هذ الاستحقاق بتحالفات تنوعت بحسب المناطق، اضافة الى نحو 100 مختار منهم أربعة من أصل خمسة في سن الفيل. ويقول عضو مكتبه السياسي سيمون الخازن ان الحزب شارك بماكينته الانتخابية في معركة جونيه الى جانب اللائحة التي فازت، وحقق في كسروان - الفتوح حضوراً، وخرق مرشحوه لوائح عدة، وانه دعم في جبيل لائحة جان لوي قرداحي التي فاز غالبية مرشحيها، و"حين انقسم الكتلويون توحد الكتائبيون موالين ومعارضين ضد الكتلة". ويعدد مناطق كان فيها للكتائب مكاسب مهمة، من مثل العقيبة التي ضم مجلسها البلدي الجديد خمسة كتائبيين، وجعيتا 2 وسن الفيل 4 والضنية 4. ويعتبر "اننا خسرنا في المدن الكبرى حيث المعارك كانت سياسية اكثر منها بلدية". وثمة مؤشر بارز أملاه الاستحقاق البلدي، وقد يترجم سياسياً في وقت لاحق، وهو التحرك العلني لمؤيدي التيار العوني إذ أقاموا مكاتب انتخابية في المناطق، وجالوا بسياراتهم المزينة بصور "الجنرال" وشعاراته، وارتدوا قمصاناً تتوسطها الصور والشعارات نفسها... هم الذين كانوا يحاسبون - وأحياناً يعاقبون - على "زمور" في نفق نهر الكلب. وكذلك العودة السياسية لحزب الوطنيين الأحرار الى الشوف التي تمثلت في مواكب رافقت رئيسه دوري شمعون، رافعة رايات وشعارات وصوراً له وللرئيس الراحل كميل شمعون والمهندس داني شمعون. وسط كلام على معاودة فتح الفروع الحزبية في المنطقة. حتى حزب الكتائب المسترجع موطىء قدم له في عاليه والشوف، للمرة الأولى منذ العام 1983 حرب الجبل، تحرك كوادره وعناصره هناك مستفيدين من خطوة الانفتاح التي قام بها الوزير جنبلاط على احزاب عدة كان يخاصمها ومنها الكتائب. وعبّر رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي عن عدم ممانعته لتحرك الأحرار والكتائب، وان بطريقة غير مباشرة، حين سئل عن تعاونه مع شمعون، بسؤال الصحافية التي استصرحته "ولماذا لا أتعاون؟ اتريدين ان أبقى مقوقعاً في الجبل؟"... فضلاً عن ان "التقدمي" شكل لجاناً مشتركة مع خصوم الأمس، ومنهم الأحرار والكتائب، لدرس الوسائل الكفيلة بتسريع عودة المهجرين الى الجبل. قد لا تكون الأحزاب والتيارات والقوى "المقاطعة" والمعارضة حققت انتصاراً كبيراً في الانتخابات البلدية والاختيارية، لكن ما سجلته كافٍ لتثبت انها قوة اساسية في المجتمع، توظفها في تهيئة نفسها لاستحقاقات انتخابية مقبلة، والافادة من أخطاء ارتكبتها، وربما لو كان بعض قادتها غير بعيدين من قواعدهم، جسدياً، ولو اتيحت لممثليهم والعاملين باسمهم على الأرض وسائل تعبير وتحرك أفضل، لاختلفت النتائج... لكن يبقى ان لكل تغيير بداية.