من سوء حظ مشروع الزواج المدني في لبنان أن طرحه جاء ضد اتجاه الزمن العربي، وأن سفينته جرت عكس رياح التعصب والردة والماضوية، فلم يكن من الممكن الارتقاء الى المضامين والأهداف التي يصبو اليها في حين تهيمن حالة من التراجع والترهل والانكفاء على كل مستويات الحالة الحضارية العربية الراهنة. كشف القانون وردود الفعل الهستيرية المضادة أن سؤال الحداثة الذي طرح بقوة منذ أواسط القرن الماضي لم يزل مطروحاً هو ذاته وبشكل أكثر حدة وفي مواجهة تحديات أكبر وأعمق. فالصدمة التي أثارها قرار ما عُرف ب"التنظيمات العثمانية" لم يهدأ اعصارها بعد في العقل العربي المعاصر، ولم ينتهِ الى الآن ذلك الصراع الذي تفجر حولها. حتى أن إحدى الدراسات الصادرة حديثاً في أسباب انهيار السلطنة العثمانية وسقوطها تحمِّل قانون التنظيمات مسؤولية ذلك الانهيار والسقوط. ففي "الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط" 1994، يقول قيس جواد العزاوي: "وما الهاوية في التاريخ العثماني الحديث سوى التنظيمات التي أعلنت اعتراف السلاطين نهائياً بشروط الاستسلام الحضاري للغرب". ويذهب المؤلف الى أنه من المؤسف أننا لا زلنا نردد عبارات عن "الفكر النهضوي" و"حركة الإصلاح" و"المصلحين" دون أن نتأكد من حدوث هذه النهضة وذلك الإصلاح بالفعل! هذه المحاكمة المستجدة للفكر النهضوي وحركة الإصلاح العربية تبيِّن مدى الرفض الذي لا تزال تلاقيه كل محاولة لفصل القوانين الوضعية عن المجال الديني والطائفي لما يتضمَّنه ذلك من معاني "المواطنية" و"الفردية" و"المساواة القانونية" بدائل عن الانتماء "العضوي" الى "الملة" و"الطائفة" و"القبيلة". لقد انتهى معارضو "التنظيمات العثمانية" التحديثية أواسط القرن الماضي الى تكفير الصدر الأعظم وهو بالضبط ما انتهى اليه معارضو قانون الزواج المدني في لبنان، اذ لم يتردد بعض أمراء الطوائف في المجاهرة بتكفير الذي يتزوجون مدنياً، بينما أفصح البعض الآخر عن نيَّته بإخضاع السياسيين للزعامات الطائفية. انه استئناف متجدد لرفض الحداثة القديم ينطوي في جوهره على نبذ كل انجازات الحداثة ومبادئها وقيمها، فالخلاف في حقيقته أبعد من خلاف على قانون للأحوال الشخصية. انه أولاً خلاف على الإنسان ذاته، على وجوده وحريته وموقعه في التاريخ. جذوره في تاريخنا كله، شهداؤه على امتداد أزمنته وعصوره، من ابن رشد الى عبدالرحمن الكواكبي وأسعد الشدياق الى فرج فوده ومهدي عامل وحسين مروة. فالزواج المدني يبدأ من مسلَّمة ان الإنسان قد بلغ سن الرشد وهو سيد نفسه وأن في وسعه أن يقرِّر هو ذاته، علاقاته واختياراته بما يلائم مستلزمات سعادته وتقدمه ونمائه. ما يتناقض تناقضاً صريحاً مع تصوُّر للتاريخ يجعله أسيراً لقوانين أبدية مكتوبة لا حول معها ولا قوة ولا قدرة على الإخلال بها أو الخروج عليها. والخلاف على الزواج المدني هو ثانياً خلاف على معنى النهضة: هل هي تجدد دائم وابداع مستمر أم أنها تكرار أبدي واستعادة دائمة؟ هل هي في فهم واستيعاب التطور والاندفاع معه نحو آفاق تتجدد دوماً وأبداً أم أنها الالتزام بالسلف والمقرر والمكتوب؟ هل هي الخضوع للنص أم أنها، اعادة قراءته وتأويله من جديد أم أنها فوق ذلك كله ابداع من خارج المكتوب والمنصوص؟ والخلاف على الزواج المدني هو ثالثاً خلاف على الاعتراف بالآخر "الزوج" كآخر مختلف. وهو ما لا يزال يتناقض مع العقل العربي السائد حيث رفض الآخر هو السمة المميزة للخطاب السياسي والإيديولوجي والعقائدي. فلا يمكن القبول بالاختلاف في الحياة العائلية والزوجية في ظل المنطق الآحادي المهيمن على كل مظاهر الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية وفي حين تصل المواجهة مع "المختلف" الى حد التقاتل والتذابح. والخلاف على الزواج المدني هو رابعاً خلاف على دونيّة المرأة إذ لا تزال مقولة مساواتها مرفوضة ليس فقط في الحياة الزوجية بل في كل مرافق الحياة الاجتماعية والعملية والسياسية حيث الأمية والتمييز في الحقوق والقهر الاجتماعي ممارسات يومية وأعراف متداولة ومعاناة دائمة للمرأة العربية. والخلاف على الزواج المدني هو خامساً خلاف في الأساس على الاعتراف بالمجتمع المدني حيث الانسان كائن مدني معترف به مدنياً خارج حدود طائفته أو مذهبه أو قبيلته أو جماعته، معترف به ك"مواطن" في "وطن" وليس ك"عضو" في "أمة" أي جماعة متماهية لا ذاتية فيها للأفراد ولا حقوق لهؤلاء خارج المنظومة القبلية أو الطائفية أو العشائرية. الخلاف على الزواج المدني هو إذن خلاف تاريخي فلسفي سياسي فوق كل الاعتبارات والذرائع التي اتخذت حججاً لرفضه، فكيف سنصل الى الاعتراف بالزواج المدني بينما لم نعترف بعد بالإنسان المدني وب"النهضة" و"التنوير"، ونصر على الاعتصام بالقرون الوسطى والتعلق بإرثها المملوكي؟ وما لم نخرج الى عصرنا ونقف بشجاعة أمام تحدياته وتُسلَّط علينا أنوار حداثته لن نرتقي ليس فقط الى الزواج المدني بل إلى أي نظام مدني آخر وسنبقى نجرجر وراءنا محنة تخلُّفنا، ننقلها من قرن الى قرن، وسنظل رهائن وأسرى عقلية الغيتوات وملوك الطوائف عاجزين عن أن نكوِّن وطناً حقيقياً أو أن نكون "مواطنين" حقيقيين يملكون زمام مستقبلهم بأيديهم، حتى لا تتكرر أبدياً المواجهة العبثية بين سيزيف التحديث وصخرة إرثنا التاريخي الثقيلة.