في كتابها «أبرز مسالك الفكر العلماني والإصلاحي العربي من ناصيف اليازجي إلى ناصيف نصَّار» (منشورات جامعة الروح القدس- الكسليك، 2013)، ترصد هدى نعمة، أستاذة الفكر العربي الحديث والمعاصر، أبرز الحركات الفكرية التي نشأت في كنف الشرق الأوسط إبَّان القرنين التاسع عشر والعشرين، بغية الكشف عن أمرين رئيسين: الأمر الأول هو «اليقظة» التي تعبّر عنها التيارات الفكرية الليبرالية، الاشتراكية والعلمانية والإصلاحية والقومية، التي خرجت كلها من رحم «الرجل المريض» آنذاك، وتناضل سعياً إلى إثبات هوية وجودية باتت قيد الضياع مع انحلال القوة العثمانية، ومع انحسارها كدولة مواجهة. الأمر الثاني يتمثل في مقولة «انهيار الغرب» التي عبّر عنها بعض النزعات في الفلسفة الغربية التي أطاحت الخطر الشيوعي الروسي من جهة، وحدَّت في الوقت ذاته من التهديد «البربري» الذي يجسده -في نظرها- العالم الثالث حالياً، الإسلامي بأكثريته الساحقة، من جهة أخرى. وتبعا لذلك، تمثل «اليقظة» حصيلة ما وصل إليه الفكر في الشرق الأوسط طيلة قرنين من الزمان، في محاولات معقّدة ليُثبت ذاته ويُجدِّد هويته على الساحة العالمية، فيما يمثل «انهيار الغرب» الخوف الكامن في أعماق الغرب من ديموغرافية العالم الإسلامي الآخذة في التوسُّع، والضاربة في التخلُّف إلى حدٍّ بعيد. وما بين «اليقظة» العربية الإسلامية من جهة، ومقولة «انهيار الغرب» من جهة أخرى، تستمدُّ الإشكالية الحقيقية وجودها من أنظمة سياسية مُتناحرة، ومن قبضة الديني على السياسي، ومن الخلافات المذهبية والدينية، ومن الفروقات الاجتماعية، ومن سوء توزيع الثروة، ومن بؤر الإرهاب الفكري والدِّيني التي وجدت لها في الشرق الأوسط تربة خصبة، وفي ظلِّ غياب مفهوم المواطنة بشكل واضح ودقيق. ضمن هذا السياق العام، يتناول الكتاب مدخلاً في السِّياسة والدين، كونهما العنصرين الأساسيين المكونين للمجتمعات الإنسانية منذ أقدم العصور وإلى زمننا الحاضر. فعلى رغم كل المساعي الفكرية التي بُذلت في العالم العربي، منذ مئتي عام على الأقل، بهدف فصل الدِّين عن السِّياسة، وعدم صبغ الأنظمة القائمة بصبغة دينية، فإنَّ إشكالية الدِّين والدَّولة والمواطنة لا تزال تراوح مكانها. أمَّا في بنية الكتاب، فقد قسَّمت المؤلفة كتابها إلى ستة فصول، اعتنت بإلقاء الضوء على البيئة الاجتماعية والسِّياسية الناطقة بالضاد في الدَّولة العثمانية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، باعتبار أنَّ هذه الفترة هي التي أطلقت شرارة التغيير في العالم العربي الحديث والمعاصر. كما ركَّزت بصفة خاصة على الجهود الفكرية التي قام بها بعض المفكرين من المسيحيين والمسلمين في الشرق العثماني، للبحث عن الذات، وعن موقع يُمكِّنهم من أن يكونوا عنصراً فاعلاً في صناعة الحضارة الإسلامية، انطلاقاً من أصالة هويتهم وفرادة تراثهم. اتخذ البحث عن الذات أشكالاً عديدة غالباً ما لم تتلاق ولم تجد لها أرضية مشتركة. فالمسيحيون المثقفون العرب امتطوا فكرة «العروبة» الجامعة، والمسلمون المصلحون -على اختلاف وجهات نظرهم المتعلقة بفكرة الإصلاح والتجديد- أجمعوا على أنَّ «الإسلام» الصحيح هو الرابط والجامع الحقيقي للأمة العربية الإسلامية. والحال أنَّ طلائع النهضة الفكرية الأولى نجحوا في وضع الأسس الأولى، وإن لم تكن مكتملة، لما يُسمَّى «النظام السِّياسي الاجتماعي» الذي يصون الحرية الفردية والحرية الدينية وكرامة الإنسان في مجتمعه العربي. كما أنَّ دعاة الإصلاح العرب الأوائل نجحوا أيضا في أن يضعوا أسس استنهاض الأمة الإسلامية، ورموا بذورا إصلاحية خلَّفت انعكاساً كبيراً على المجتمعات العربية الإسلامية، وفتحت نافذة للنقد والتحديث والتجديد. على أنَّ الحركات الفكرية العديدة والمتنوعة والغنية حاولت -وفق المؤلفة- استباق الوقوع في فراغ القوَّة قبل التقهقر النهائي للدَّولة العثمانية، لكنها لم تنجح، أولا بسبب التفاوت الكبير بين الشُّعوب الناطقة بالضاد، وفئات المفكرين المسيحيين والمسلمين، وثانيا بسبب الافتقار إلى رؤية مشتركة بين المفكِّرين المسيحيين والمسلمين العرب بهدف إرساء قواعد النظام السِّياسي القوي القادر على انتشال الأوساط العربية من التداعيات الخطيرة لسقوط الدولة العثمانية. أمَّا السبب الأكثر وضوحا لتثبيت فراغ القوة في الأوساط العربية، فيمكن عزوُه إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، إلى زمن ظهور دول عربية ما عرفت الوحدة، وعاشت طويلاً في أجواء التنافس والتنافر، وانتهت بتبني سياسة المحاور بينها منذ لحظة ولادتها. وفي السِّياق ذاته، اتخذت القومية شكلاً من أشكال الوحدة الممكنة بين الشعوب العربية، وقد وجد فيها واضعوها ومُنظِّروها مبدأ جمع للشعوب العربية. لكنَّ أسباب نجاحها بدت هشَّة أمام النتائج التي وصل إليها المفهوم في العالم العربي إبَّان النصف الثاني من القرن العشرين، إذ بدأت تدكُّ أسسه حركاتٌ إسلاميةٌ متشدِّدة، نجحت في أن تستقطب الجماهير العريضة، ما استدعى مواجهة المفكرين العرب لها. ولهذا السبب تناول الكتاب بوادر النهضة العربية الثانية بوصفها حركة تقويم لما اعوجَّ وما لم يُفهم على حقيقته، على نحو ما تبلور في مشروع ناصيف نصَّار بصفة خاصة، الذي ساهم في تقديم صياغة جديدة مستقلّة تميَّز بها الفكرُ العربي المعاصر، وعلى نحو ما جاء عند جورج قرم الذي قاد نوعاً من الثورة، أو التمرد، على رتابة المفاهيم التي سادت ميادين الفكر العربي، وطالب بإعادة النظر في بنية هذه المفاهيم، وإعادة التواصل مع الفكر النهضوي من أجل صوغ منظومة فكرية سياسية وفية لماضي العالم الإسلامي، ولتراثه الفكري في عصوره الذهبية. وتنتهي المؤلفة، بعد عرضها الأوضاع السِّياسية والدِّينية والاجتماعية للدَّولة العثمانية، إلى نتيجة مفادها أنَّ الديانتين، المسيحية والإسلامية، المكونتين للنسيج الاجتماعي العثماني، خرجتا من كونهما وحيدتين في مواجهة الواحدة الأخرى، لتواجها معاً الحداثة وما ينتج منها من تقدّم علمي وتكنولوجي وسياسي، ومن بثِّ روح جديدة في الناس تحملهم على مساءلة التعاليم الدِّينية والتقليدية، التي تدَّعي أنها تكشف للبشر حقيقة الإنسان، وأنها بالتالي توصل الحياة البشرية إلى غاياتها السامية. فالمعركة المستجدَّة هي بين الدِّين والحداثة، وبالتالي بين الدِّين والسِّياسة الحديثة المتغيرة المنعتقة من ارتباطها بالدِّين. أمَّا البوادر الأولية للخروج من الفكر الثيوقراطي الموروث، فتبدو واضحة من خلال جهود رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873)، الذي يفتتح سجلاً حافلا بأسماء الذين انكبُّوا على عملية الإصلاح والتجديد في العالم العثماني. من جهة أخرى، تكمن بوادر الفكر النهضوي العربي في طبقة المسيحيين المثقفين العرب التي تميزت عن جمهور العثمانيين عامة بتأثرها الشديد بقيم الغرب ومفاهيمه. ونتيجة لذلك، فقد نشأ نتيجة هذا الوضع تبايُن أساسي بين المسيحيين المثقَّفين العرب ومحيطهم المسيحي والإسلامي على حد سواء. فقد وعت تلك الطائفة أنها تمثل أقلية مسيحية عاجزة عن استقطاب المسيحيين أنفسهم والتحدُّث باسمهم، كما أدركت أنَّ الولاء الدِّيني يمثل خطرا على الحياة السياسية، وأنه يجب إيجاد قاعدة للتعاون بين أتباع الديانات المختلفة. كما أدركت أيضا أنها أقلية لا يرى فيها محيطُها الإسلامي، القائم على الولاء الدِّيني، سوى «أهل ذمّة»، وأنَّ اكتساب العلوم الغربية والتنور بالأفكار الحداثية أمرٌ، والتغرُّب أمر آخر «فلا يمكن أن نسلِّم تسليما مطلقا أعمى أنَّ كلَّ ما يأتينا من هناك هو مفيدٌ في حدِّ ذاته ومُوافق لنجاح الشَّرقيين»، في ما يقول بطرس البستاني. وقد نتجت من هذا الوعي اتجاهات ومواقف شتَّى انتهت بخروج الطبقة المسيحية المثقَّفة من قفص الطائفة المنكمشة على ذاتها، وإعلان رفضها الصريح الذوبان في العالم الإسلامي التقليدي، واستبعاد أي انتماء غربي يفتقد فيه الشرقيُّ هويته أو يفقدها. ضمن هذا السِّياق، يمثل الشَّيخ ناصيف اليازجي (1800- 1871) حجر الزاوية في بناء التوجُّه العلماني، إذ أقبل على تجديد اللغة العربية عبر سعيه الحثيث من أجل النهوض بها وتأهيلها لتكون أداة «يقظة» لأمَّة هي لغتها، بعد أن شتَّت تلك الأمة وفتَّتها العنصرية والطَّائفية والتقوقعات المذهبية. لقد اقترنت أهمية التمسُّك باللغة العربية آنذاك بأهمية الأوضاع المتوتِّرة في المنطقة، فاتخذ انبعاثُ اللغة العربية شكل انتفاضة سياسية سعت، مُباشرة أو مُداورة، إلى أن تجعل اللغة العربية وسيلة التَّعبير والتقارب بين الناطقين، وانتفاضة فكرية سعت إلى بعث التُّراث العربي الذي بات في طي النسيان. ويُبرز ناصيف اليازجي بوادر هُوية عربية مُغايرة للهُوية العثمانية، ويتلاقى تفكيره مع دُعاة العلمنة في فرنسا، الذين رأوا في اللغة «الرمز الرئيس للوطنية التي تضمن للأمم استقرارها». وتتابع المؤلفة تسليط الضوء على جهود كل من: أحمد فارس الشدياق (1804- 1877)، وبطرس البستاني (1819- 1883)، والمرَّاش (1836- 1873)، وسليم البستاني (1848- 1884)، وأديب إسحاق (1865- 1885)، في ترسيخ كلٍّ من: اللغة والأدب والشريعة المدنية في المجتمع. والحال أن جميع هذه المحاولات كانت تستهدف، في جوهرها، إيجاد انتماء وأرضية مشتركة لهذا الانتماء يتمثَّل في اللغة العربية بوصفها رابطاً وطنياً إنسانياً بين أهلها، وإن اختلفت أديانهم ومشاربهم. رابطاً يحلُّ محلَّ الدِّين، ويمثِّل وعاء للعلوم من أجل الرقي بأبناء الوطن. لقد كان للحداثة القادمة إلى الشَّرق العثماني انعكاس على حياة المسلم المتنور والمسيحي المثقف، إذ تفاعل كلاهما مع الحداثة، إلا أنَّ مفتاح الولوج إلى النهضة عند الطهطاوي لم يتجاوز الدعوة إلى تحديد مفهوم الوطن والحكم، في حين أنَّ مفتاح النهضة في نظر الطلائع المسيحية العربية المثقَّفة يكمن في السَّعي إلى إقامة دولة علمانية، مدنية الطابع، لا تستند في شرعيتها إلى أي مرجعية دينية أو مذهبية، بل إلى مواطنة كاملة غير منقوصة يتمتَّع بها جميع أفراد المجتمع. أخيرا يؤكِّد ناصيف نصّار في كتابه «نحو مجتمع جديد» أنَّ دراسة الفكر الاجتماعي الذي تكوَّن منذ أواسط القرن التاسع عشر، في بيروت والقاهرة بنوع خاص، تكشف لنا عن تجارب عاشها رجال أوثق صلة بنا من رجال الغرب والشرق، مهما كانت عظمتهم ودرجة حاجتنا إليهم أو تعلُّقنا بهم، فهذه التَّجارب تعبِّر في جوهرها عن مُعاناة لمشاكل تاريخية وتطوُّرات اجتماعية نحن أولادها. وتبعًا لذلك، ينظر ناصيف نصَّار إلى الجيل الفكري النَّهضوي العربي، من بطرس البستاني إلى شبلي شميل، على أنه جيل أرسى أصول نهضة أدبية فلسفية وعلمية نشرت العلوم والمعارف، وأوصلت موجة النقد إلى ذروتها، وهزَّت الفكر وأخرجته من سبات عميق، مثيرة بعض الشك في قيمة الإيديولوجية التي خضع لها العالم العربي طيلة قرون. يتحصَّل مما سبق، أنه يمكننا أن نستمد من فكر ناصيف نصّار نزعة تجديدية، عبر استعادة التواصل مع أرباب النهضة الأولى ومع الفكر الغربي الحديث، وصولاً إلى تحقيق ما سمَّاه «الاستقلال الفلسفي»، الذي يقوم على جملة من المبادئ الرئيسة، في مقدّمها: إعادة قراءة أطروحات النهضة ومقومات الثورة الفكرية وتقويمها بشكل موضوعي، وبناء تصور واضح للقيم الرئيسة التي لا تستقيم عملية التغيير النهضوية من دونها، والعمل على تنفيذ عملية نهضوية تقوم على ما يضمن الصلاح في المدى المنظور والبعيد. وبهذا يُعيد نصَّار فيلسوفَ التَّغيير إلى مجتمعه الخاص، ما يجعل تفكيره الكوني، موضوعاً ومنهجاً، متشكِّلا تحت شرط الخصوصية.