منذ تسلم بنيامين نتانياهو رئاسة الحكومة في إسرائيل، وهو يغلق كل الأبواب والمنافذ التي يمكن أن تتسلل منها أية مبادرة سلمية جديدة، بعدما أجهز على المبادرة الأميركية التي اطلقت مؤتمر مدريد والمفاوضات الثنائية على المسارات كافة. ومنذ فترة وهو يعلن بكل صراحة ووضوح أن إسرائيل لا تريد ولا تحتاج أية مبادرة من أية جهة كانت أوروبية أو روسية أو أميركية، انطلاقاً من اقتناعه بأن أية مبادرة لن تكون في مصلحة إسرائيل وبأن العامل الدولي لا يخدم مصالحها في هذا المجال، بل يشكل ضغطاً عليها، وبالتالي فإن ما يريده هو تحييد هذا العامل والتخلص منه نهائياً إذا امكنه ذلك. ولأجل هذه الغاية أساءت حكومته متعمدة إلى كل من جاء إليها ساعياً أو مروجاً للسلام وضروراته الرئيس الفرنسي ووزيري خارجية روسيا وبريطانيا والأمين العام للأمم المتحدة، وارفقت هذه الاساءات بالافشال المتعمد والمتكرر لكل اللقاءات التي أجراها نتانياهو مع كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية في شأن عملية السلام: الرئيس كلينتون والوزيرة أولبرايت وحتى المبعوث دنيس روس، وختم ذلك بالاعلان صراحة أن إسرائيل لا تريد ولا تحبذ مبادرة أميركية ولن ترضخ لأي ضغط أميركي يمس مصالحها الأمنية، ساعياً في الوقت ذاته إلى استنفار الشارع الإسرائيلي، خصوصاً قواه اليمينية في هذا الاتجاه. وقد دفع ذلك وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت إلى مصارحة رؤساء المنظمات اليهودية في الولاياتالمتحدة، ومن خلالهم حكومة إسرائيل والحكومات العربية عبر تسريب خطابها إلى صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في 29/3، بالتقويم الأميركي لحالة عملية السلام وآفاقها وما يمكن ان يكون عليه الموقف الأميركي تجاهها. إذ أعلنت أولبرايت أن مسيرة السلام عالقة لا تتقدم وأنها تقترب من نهايتها، وإذا لم يوقع اتفاق على المسار الفلسطيني قبل نهاية العام المقبل الوضع النهائي لا بد من توقع انفجار العنف الذي سيضع أمن إسرائيل في خطر لأن العملية وصلت إلى حافة التدهور، وبعدما شددت على أن الإدارة الأميركية لا تعمل من أجل وضع شوكة في حلق إسرائيل، بل تعمل من أجل أمن إسرائيل، أكدت انه لا توجد مبادرة أميركية وقالت إن إحدى الامكانات المحتملة هي أن ننسحب من مسيرة السلام. وتوحي القراءة الأولية لأقوال أولبرايت ان الإدارة الأميركية لا تستبعد فعلاً الانسحاب من عملية السلام. ولا شك ان هذا الانسحاب سيكون أجمل هدية يمكن أن تقدمها الإدارة الأميركية الحالية لإسرائيل، وسيكون في المقابل أسوأ هدية يمكن أن تقدمها للدول العربية. ولا يزال الناطقون الرسميون الأميركيون يلمحون إلى انسحاب الولاياتالمتحدة من عملية السلام كواحد من أبرز الخيارات إذا لم يتم احراز تقدم. والأكثر وضوحاً من أي كلام وتصريحات هو ان واشنطن لا تفكر لا من قريب ولا من بعيد بممارسة أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية لالزامها بأي من الأفكار والمقترحات الأميركية ولا بأي من الاتفاقات أو التعهدات التي سبق أن وقعت عليها، وتعهدت بها. ويعتبر تلويح أولبرايت بالانسحاب، مع استمرار الدعم الأميركي العسكري والسياسي لإسرائيل واستمرار الالتزام بأمنها، التحدي الأميركي - الإسرائيلي الأكبر الذي ربما واجهته الدول العربية في المرحلة المقبلة. فواشنطن تريد أن تبلغ العرب والعالم رسالة تدعي فيها: 1- انها بعد ثلاثين عاماً من احتلال إسرائيل للضفة والقطاع والجولان عاجزة عن ممارسة الضغط على إسرائيل لالزامها أو اجبارها على القبول بمبدأ الأرض مقابل السلام وتنفيذ قراري مجلس الأمن 242 و338 وبالتالي الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. وهكذا فإن عجزها حتى عن اقناع إسرائيل بالانسحاب يفرض عليها هي أن تنسحب من محاولة الاقناع. 2- ان كل مبادراتها منذ 1967 لم تجد نفعاً في تحريك الموقف الإسرائيلي باتجاه الانسحاب من الأراضي وأن عودة سيناء إلى مصر لم تكن بمبادرة أميركية بقدر ما كانت بمبادرة السادات. 3- انها تتفهم تمسك الإسرائيليين بأولوية أمنهم ولن تعرض هذا الأمن للخطر، بل هي ملتزمة أمن إسرائيل أولاً حتى وإن لم تنسحب من الأراضي التي تحتلها. 4- ان علاقتها بإسرائيل ذات أولوية وتتقدم على علاقاتها مع كل الدول العربية. 5- ان أي خلاف لها مع إسرائيل بشأن عملية السلام هو خلاف محدود في ظل اتفاقهما غير المحدود بشأن عدد لا يحصى من المسائل، بينما أي اتفاق لواشنطن مع الدول العربية هو اتفاق محدود تظلله خلافات غير محدودة. ويطرح ذلك على الدول العربية عدداً كبيراً من الأسئلة أهمها: ماذا سيكون الموقف العربي من واشنطن ومن إسرائيل إذا انسحبت أميركيا من عملية السلام؟ وما هي الخيارات البديلة من أجل استرداد الأرض المحتلة والحقوق المغتصبة؟ هل يتم التخلي عن السلام كخيار استراتيجي؟ وهل تتم العودة إلى الحرب؟ وهل تقبل الدول العربية كافة قطع علاقاتها مع إسرائيل والعودة إلى سياسة المقاطعة بما في ذلك الدول التي وقّعت معاهدات واتفاقات معها؟ وهل ثمة امكانية كي يندفع العرب أو بعضهم على طريقة السادات أو على طريقة قمة فاس الثانية نحو صياغة وتقديم مبادرات من صنعهم للسلام مع إسرائيل. إن التحدي الذي يطرحه احتمال الاعلان عن انسحاب أميركي من عملية السلام تحد خطير جداً بالنسبة للعرب بعدما اعتادوا على امتداد العقود الثلاثة الماضية العيش على الوهم القائل بأن الولاياتالمتحدة هي الوحيدة القادرة على إعادة ارضهم المحتلة لهم مقابل اعترافهم بإسرائيل وقبولهم العيش بسلام معها، وبعدما تعلقوا بسراب السلام الممكن مع إسرائيل وأراحوا أنفسهم من عناء التضامن وبناء القوة القادرة على تحرير أرضهم والدفاع عن وجودهم وحماية مستقبلهم. وهو تحد يفرض على العرب العودة إلى الذات لعقلنة وتعريب واقعهم وخياراتهم الراهنة والمستقبلية. فالولاياتالمتحدة ومعها كل الدول الغربية لم تفعل شيئاً للعرب من أجل إعادة الأرض والحقوق التي اغتصبت عام 1948 عبر محاولة تنفيذ القرارين 181 و194 رغم رئاستها آنذاك لما عرف بلجنة التوفيق الدولية، وهي لم تفعل شيئاً بعد عدوان حزيران يونيو 1967 من أجل إعادة ما احتلته إسرائيل، ولو شاءت ان تعيد إسرائيل للعرب أرضهم لما قدمت لها ما يساعدها على مواصلة هذا الاحتلال وترسيخه.