على رأس النظامين الحاكمين في اثيوبيا واريتريا رفاق نضال ودرب.. جمعت بينهم الثورية ومحاربة خصم مشترك، وكانت قوات "الجبهة الثورية الديموقراطية لشعوب اثيوبيا" EPRDF تقتسم مع "الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" المعلومات والمعدات والعتاد والمهارات، بل ان قوات الطرفين دقت معاً ابواب العاصمة الاثيوبية اديس أبابا في أيار مايو 1991 وأسقطت حكم الكولونيل منغيستو هايلي مريام.. وبعد سنوات من ذلك التاريخ تتواجه الحكومتان وتختلفان على نقطة حدودية.. فماذا تغيّر؟ كانت اكبر مفاجأة للمراقبين السياسيين في القرن الافريقي، بل وللشعبين الاريتري والاثيوبي، ان يصدر عن الحكومة الاثيوبية بيان شديد اللهجة في منتصف أيار مايو الجاري يدين "اعتداءات" اريترية على حدود البلاد الشمالية الغربية مطالباً بانسحاب القوات الاريترية فوراً ومن دون شروط. وإذا فهمنا اهتمام الاتحاد الأوروبي ومطالبته في بيان للدولتين بضبط النفس، وإذا فهمنا الذعر الاميركي نتيجة الحاصل وإيفاده سوزان رايس 37 سنة مساعدة وزيرة الخارجية الاميركية للشؤون الافريقية للتوسط الذي قبل به الطرفان، وإذا فهمنا انزعاج رئيس "السلطة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف" ايغاد رئيس جمهورية جيبوتي حسن غوليد ابديتون وانتقاله الى كل من أديس اببا وأسمرا في محاولة لتهدئة الأوضاع، فكان المدهش دعوة وزير العلاقات الخارجية السوداني لأثيوبيا وأريتريا لضبط النفس والبحث عن حل عن طريق الحوار، لأن العالم كله ظن ان اسعد الناس بالوقوف على حد السكين بين اثيوبيا واريتريا، هو الحكومة السودانية.. فكيف تبنى الوزير السوداني هذه الدعوة في وقت علاقات بلاده المفهومة والمعلومة مع البلدين المتنازعين تحت الصفر، وأن المستفيد الوحيد من تدني العلاقات بين الجارتين هي بلاده، وقد فهم بعض الخبثاء في المنطقة ان السودان انما أراد ان ينفي عن نفسه تهمة الشماتة، وهذا حقهم لكن آخرين، وهم قلة، اعتقدوا ان توتر العلاقات بين اثيوبيا واريتريا مقصود به تبرير تقارب محتمل بين النظام السوداني واثيوبيا، وأهل هذا الرأي يشيرون بوضوح الى الاجراء الاثيوبي بوقف رحلات الخطوط الجوية الاثيوبية من والى اسمرا، ويقولون انه الاجراء نفسه الذي اتخذته الحكومة الاثيوبية في 1995 بعد محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في اديس أبابا بالغاء رحلات "الخطوط الجوية الاثيوبية" الوطنية الى الخرطوم. والتساؤل هو.. لماذا تدهورت العلاقات فجأة وبهذا السيناريو بين البلدين؟ وللاجابة على هذا السؤال من المهم العودة الى خلفيات مهمة، اولها ان اريتريا منذ ان نالت استقلالها في 1993 من اثيوبيا بموجب منطوق الدستور، جرى استفتاء حصلت بعده اريتريا على استقلالها، استخدمت الاخيرة العملة الاثيوبية البر وسار شهر العسل بين البلدين، وتحمل رئيس الوزراء الاثيوبي ملس زيناوي الوزر لأن بعض الصحف الخاصة في بلاده اتهمته علناً ومستتراً بأنه يشفط الماء من الشجرة الاثيوبية ليروي به الشجرة الأريترية.. وفي العام الماضي قررت اريتريا اصدار عملتها الخاصة بها النقفة وبعدها تواصل الاحتكاك وطفت الحساسية على السطح السياسي والاقتصادي. وكان اكثر المتضررين قبائل الحدود المشتركة بين البلدين الذي فرض عليهم التعامل بالدولار الاميركي فيما كانوا في الماضي يتعاملون بالعملات المحلية.. وبعد ذلك دخلت ميناء عصب الاريتري الذي تستخدمه اثيوبيا في مسلسل الدولار، مما اضطر اثيوبيا الى الاتجاه الى ميناء جيبوتي من جهة، والى توجه اريتريا الى بوروندي لاستيراد البن منها بدلاً عن اثيوبيا لأنه ارخص بالنسبة لها، كما اتجهت الى تايلاند لاستيراد الذرة التي تصنع منها الخبز الشعبي الانجيرا.. فهذا ما يقال وقد يكون غير صحيح، لكن بعد الذي حدث يظهر جلياً ان تحت الرماد كان وميض نار لم يجرؤ احد من الجانبين على الاشارة الى ذلك الوميض او التنبيه.. الى تبعاته. بثت الاذاعة البريطانية في برنامجها اليومي "افريقيا" ان المناطق النزاعية الحدودية الثلاثة تحتوي على ثروات معدنية وذهب.. لكن احد المحللين السياسيين وصل الى نقطة صحيحة وهي ان البلدين اتفقا على 1993 على كل شيء، فكيف يظهر فجأة اختلاف على الحدود.. فهل تم العقد الثنائي على عجل ام ان اثيوبيا واريتريا تعاملتا من منطلق عاطفي في ذلك الزمان، وقد آن للمنطق والوقائع ان تنبئ عن نفسها، حتى ولو كان ذلك على حساب اي منهما او على حسابهما وحساباتهما معاً؟ وفي نهاية المطاف، ظهرت منظمة الوحدة الافريقية ببيان صادر عن امينها العام سالم احمد سالم وضع فيه امكان المنظمة القارية تحت تصرف البلدين.. لكن بعد ان كانت الأسبقية للمبادرة الخارجية الاميركية التي غطت حتى على محاولة جيبوتي المجاورة. فإذا أراد المرء استقراءً متأنياً للأزمة الاثيوبية الاريترية يمكن بسهولة ان يسقط في فخ التحليلات القائل منها ان اريتريا تواجهها ازمة اراضي، والقائل منها ان المنطقة محل الخلاف فيها كنوز، كما يمكن ان يتوقف عند بعض الاجهزة الاعلامية التذكير بتجربة اريتريا مع اليمن في جزر حنيش، ومع جيبوتي مرة ومع السودان.. وكل من هذه لها ظروفاً الزمانية والمكانية.. وكلها تصب في خانة، وما حصل بين اثيوبيا وأريتريا يصب في خانة اخرى والمطلوب اطفاء الحريق بالطرق السلمية لا بالاثارة. ويكفي ان السودان على الأقل نادى بعودة العقل بين البلدين.. وليته يستخدم ذات الاقتناع والمنطق في تعامله مع اثيوبيا وأريتريا.