بداية أوجه التحية الى الاستاذ عبدالإله بلقزيز، الكاتب والجامعي المغربي المرموق، واؤكد عمق رؤيته وموضوعيتها وإثارته العديد من النقاط التي يرغب البعض في القفز فوقها وتجاوزها. واذا كنت اتفق مع بلقزيز في عدد من النقاط، منها ان الحركة الاسلامية أو المشروع السياسي الاسلامي مشروع اصيل في مرتبة الثقافة العربية المعاصرة ويستند الى قاع ثقافي عربي ما يزال دينياً، او لا يزال الدين من المصادر السياسية لتشكيل معطياته، فإنني اضيف ان المشروع السياسي الاسلامي ليس فقط تعبيرا عن وجدان الامة وحضارتها وامتداداً طبيعياً ومنطقياً لموروثها الفكري الحي، بل ثقافتها الحية المؤثرة، لكنه ايضا رد فعل ايجابي وطبيعي على التحدي الحضاري - الاوروبي الذي كان ولا يزال يمثل مساحة كبيرة من الحيز السياسي والاقتصادي والاجتماعي على طول تاريخنا، الذي شهد صراعاً مستمراً في الزمان والمكان بين الحضارتين الاسلامية والاوروبية ليست الحروب الصليبية "الفرنجية" الا احدى محطاتها. واذا كان الاستعمار والصهيونية مثلاً هما الحلقة الاخيرة في هذا الصراع الذي يستهدف وجودنا، فإن من الطبيعي مواجهة هذا التحدي الاستعماري الصهيوني - ما دام جزءا من التحدي الحضاري - بمنظومة فكرية وثقافية تستند الى وجدان الامة وثقافتها. والا فكيف يمكننا مواجهة ظاهرة مثل الاستعمار بأدوات من صنعها هي؟ وهكذا لم يكن عبثاً ولا بمحض الصدفة ان تكون كل حركات التحرر الوطني المعاصر من عبدالكريم الخطابي وعبدالقادر الجزائري وعمر المختار ومصطفى كامل ومحمد فريد وعزالدين القسام وانتهاءً بفتحي الشقاقي، ذات جذر ثقافي اسلامي واضح. وبديهي ان حركة المشروع السياسي الاسلامي، ما هي في التحليل الاخير والصحيح إلا امتداد لمجمل هذا النضال الوطني ضد التحديات الخارجية والداخلية. ولعل عدم ادراك هذه النقطة بوضوح لدى مفكري الحركة وكذلك خصومها، يوقع الجميع في مآزق فكرية وسياسية خطيرة. واذا كنت اتفق مع بلقزيز حول فشل المشروع المجتمعي الحديث المعتمد على العلمانية في الدول العربية، اقصد "مشروع الدولة الوطنية"، في مواجهة التحديات الخارجية والداخلية، فإن هذا كان امراً طبيعياً، لأنه لا يمكن بناء نهضة ولا مواجهة تحديات بشكل حقيقي ما لم ندرك طبيعة الموضوع وظروفه. ولا يمكن مواجهة تحديات الا بالاستناد الى حس شعبي مواتٍ، او بكلمة اخرى لا يمكن قطع الشجرة وزرع اخرى مكانها - معادية اصلا - وفي اقل الاحوال غير ملائمة للتربة والمناخ. بل الواجب والطبيعي هو معرفة اسباب ضعف الشجرة، وعلاجه والاستعادة بلا حساسية في هذا الصدد لكل التجارب، شريطة ان تدخل من خلال النسيج الحي للشجرة الاصلية. على كل حال فإن من عيوب مشروع الدولة الوطنية الذي فشل استناداً الى العلمانية، والذي ما كان له الا ان يفشل، ومن عيوب المشروع السياسي الاسلامي المعاصر، إغفال بُعد مهم في الموضوع الا وهو اننا في حال هزيمة تكنولوجية حضارية، بمعنى ان السيادة العسكرية والسياسية والعلمية والمعلوماتية في العالم المعاصر هي للحضارة الغربية. واذا كنا ندرك اننا في حال صراع معها، فإننا لم ندرك بشكل واعٍ بعد اننا في حال هزيمة وتخلف علمي وتكنولوجي. ولو ادركنا هذا واعترفنا به، لأمكننا ان نكتشف الوسائل الصحيحة للاقلاع. وفي هذا الصدد فإن المشروع السياسي الاسلامي يحتاج الى ما يسمى "فقه الاقلاع"، لأنه اذا كان تراثنا الفقهي وهو عظيم، وحركات الاسلام السياسي تدعو الى الالتزام به، قد نشأ في حال سيادة حضارية او على الاقل تعادل حضاري اسلامي مع العالم، وكان بلاغاً لهذا الظرف، فإنه لم يعد ملائماً لظرف الهزيمة الحضارية التكنولوجية الذي نعيشه. والامر يقتضي اجتهاداً جديداً كماً ونوعاً وفقهاً جديداً كماً ونوعاً ايضاً، يراعي حال الهزيمة الحضارية، ويأخذها في اعتباره. وهذا الخطاب المدرك لذلك الظرف ما زال ينقص المشروع السياسي الاسلامي المعاصر، وهو شرط لنجاحه. واذا كنت اتفق مع بلقزيز حول ان المشروع السياسي الاسلامي هو الوحيد القادر على مواجهة التحديات وتحقيق الانقاذ والنهضة لأسباب كثيرة جداً تصل بطبيعة التحدي وظرفي الزمان والمكان، فإنه لكي يحقق هذا المشروع نجاحاً فإن هناك العديد من النقاط التي يجب ان يحققها في خطابه الفكري والحركي معاً، منها ان النهضة ومواجهة التحديات تستلزم حشد الجماهير، الطائع منها والعاصي، وليس التصرف كبديل عن الامة، ولا بمنطق الفرقة الدينية. وكذلك لا بد من تحرك فكري سريع ومكثف لحصار منطق العزلة والتكفير العملي والنظري، الذي يقع فيه عملياً معظم الاتجاهات الاسلامية، واعادة تعريف الفرق بين الاسلامي والمسلم. فالمسلم هو من نطق بالشهادتين، والاسلامي هو من انحاز الى المشروع السياسي الاسلامي سواء كان مسلماً أو مسيحياً او غير ذلك، وهذا يفتح الباب امام ظهور جبهة عريضة تضم مسلمين وغير مسلمين تؤمن بهذا المشروع وتحاول ان تجعله قاعدة تضم اوسع الجماهير لمواجهة التحديات وتحقيق النهضة. بل ان حل هذه الاشكالية، سوف يفتح الباب على مصراعيه لحدوث تحالف او حتى تنسيق بين كل القوى السياسية الفاعلة في البلاد العربية من اسلامية وقومية وغيرها على قاعدة مواجهة المشروع الغربي والصهيوني، وعلى قاعدة تحقيق النهضة من دون ان يزعم تيار انه يمثل كل الحق او كل الاسلام او كل العروبة.