هي المدينة التي كانت ولا تزال تجسّد، الى حد كبير، استمرارية الحضور الثقافي والروحي للعرب في اسبانيا. هي مدينة الاندلس من دون منازع، وهي ايضاً المدينة التي أوحت للعديد من الفنانين، خصوصاً الموسيقيين الاسبان في القرنين الاخيرين على الاقل، تلك المؤلفات التي عرفت كيف تعيد الى الاذهان روح الحضارة الاندلسية. هي غرناطة. وغرناطة هي ايضاً، قطعة موسيقية رائعة تحمل توقيع واحد من كبار الموسيقيين الاسبان عند نهايات القرن الفائت وبدايات هذا القرن: ايزاك البينيز، اما من يحب الاستماع الى هذه القطعة، على العود مع انها مكتوبة اصلاً للبيانو فليس عليه الا ان يصغي الى واحد من تسجيلات اغنية "حكاية غرامي" لفناننا الكبير الراحل فريد الاطرش، حيث سيجدها هناك يعزفها عود صاحب "الربيع" و"اول همسة" من دون اية اشارة بالطبع الى كون البينيز هو مؤلفها، وانها تشكل جزءاً من اعماله الكبيرة التي خلدت مدن اسبانيا وشخصية الأندلس، واعطت الموسيقى الوطنية الاسبانية بعض أعظم اعمالها التي كشفت عن امتزاج الروح الشرقية بالروح الغربية. ويقيناً ان هذا الامتزاج هو الذي أغرى فريد الاطرش باستعارة بعض فقرات المقطوعة وعزفها عزفاً رائعاً على أي حال. ولكن، على الرغم من تلك الروح الأندلسية الشرقية التي طبعت السلسلة التي وضعها البينيز عن اسبانيا وأندلسها، فإنه عرف دائماً بكونه من اكثر الموسيقيين الاسبان المعاصرين له اوروبية. بمعنى ان تكوينه الفني ومزاجه الشخصي، ناهيك عن التفاته الدائم ناحية أوروبا، كلها امور كان من شأنها ان يجعل البينيز واحداً من اكثر الفنانين الاسبان ابتعاداً عن الروح الشرقية ورومانسيتها الحالمة وايقاعاتها المدهشة. لكن الرجل، بعد جولة اوروبية طويلة، وبعد ارتحال لافت في عقلانية وسط أوروبا وشمالها، عاد ذات يوم ليكتشف ان ما يبحث عنه حقاً، في الفن وتحديداً في الموسيقى، كان دائماً موجوداً هناك، في الارض الاندلسية ومنذ تلك اللحظة صارت ألحانه، المكتوبة في معظها كقطع للبيانو، مطبوعة بالشرق أكثر من أية موسيقى أوروبية أخرى، بل جاءت في ذلك متقدمة كثيراً على المقطوعات ذات الروح الشرقية أو بالأصح الاستشراقية التي كان يؤلفها في ازمان متقاربة، موسيقيون مثل اوفارد غريغ، وسميتانا والروسي الكبير ريمسكي كورساكوف. فلئن كانت موسيقى هؤلاء، انطبعت بروح "شرقية" متصوّرة فضلاً عن الرومانسية الاوروبية التي صاغت، في نهاية الامر، شرقاً خاصاً بها، فإن موسيقى البينيز، خصوصاً تلك التي كتبها بعد سن النضج، وبعد عودته إلى اسبانيا من ترحاله الأوروبي، جاءت وارثة للموسيقى الاسبانية التي كانت بدورها وريثة الايقاعات - والالحان الاندلسية العربية القديمة. ولد البينيز في العام 1860 في مدينة كامبرودون الاسبانية، وكان في الرابعة من عمره حين كشف باكراً عن حس موسيقي رهيف وبدأ يعزف على البيانو. لكن والده لم يسمح له، أول الأمر، ان يحترف الموسيقى، فاضطر للهرب من البيت وكان في الثالثة عشرة، حيث عاش متنقلاً يعمل كعازف للبيانو حتى يؤمن عيشه. واذ تكرر هربه مرتين لم يجد ابوه مفراً من الرضوخ لمشيئته، فوافقه على اختياره المصيري، بل ساعده على الالتحاق بكونسرفاتوار لايبرغ في المانيا حيث شرع يدرس الموسيقى. بعد ذلك حين نفدت نقوده، التحق بمعهد بروكسلبلجيكا الموسيقي بفضل منحة حكومية ملكية قدمت له. وفي العام 1883، كان في الثالثة والعشرين حين انهى دروسه وعاد ليقيم في اسبانيا حيث بدأ يدرّس الموسيقى، أولاً في معاهد برشلونة، ثم في مدريد. في تلك الآونة كان البينيز بدأ يكتب مقطوعات موسيقية بسيطة للبيانو. لكنه اعتباراً من العام 1890 عاش تحولاً اساسياً في حياته جعله يأخذ التأليف الموسيقي مأخذ الجدية، خصوصاً أنه كان في تلك الآونة بدأ يخضع لنفوذ المؤلف الكبير فيليبي بدريل الذي كان يعتبر الاب الشرعي للموسيقى الوطنية الاسبانية. وفي العام 1893 توجه البينيز الى باريس حيث اختلط بعدد من كبار الموسيقيين كانوا قد بدأوا الاهتمام بالموسيقى الشعبية ومنهم فنسان دندي وبول دوكا، وبفضل ذلك الاختلاط تعمق اهتمام البينيز بالحس الشعبي، وذلك بالتوازي مع اصابته بمرض "برايت" الذي سيصيبه بعد ذلك بالشلل ثم يقضي عليه، إذ ارتحل عن عالمنا يوم 19 ايار مايو 1909، وكان لا يزال في التاسعة والاربعين من عمره. مهما يكن، فان أهمية البينيز، الذي جرب أنواع الكتابة الموسيقية كلها بما فيها الاغاني الاوبرالية، تكمن في مقطوعات البيانو الشهيرة التي كتبها، والتي استخدمت في غالبيتها الحاناً وتقاسيم وايقاعات مستقاة من الحس الاندلسي. اما عمله الاشهر فهو مجموعة "ايبيريا" التي الّف مقطوعاتها المختلفة بين العام 1906 والعام 1909، اي ظل يكتبها حتى ايامه الاخيرة، وتتألف من 12 قطعة يرى الكثير من المؤرخين والنقاد انها من اكثر الاعمال الموسيقية تعبيراً عن الروح الاندلسية. ومن بين أعماله الشهيرة ايضاً متتابعة "اسبانيولا" التي تتضمن قطعة "اشبيلية" الشهيرة" وكذلك "كانتوس اسبانيا" التي تتضمن "قرطبة"" ثم "نافارو" و"التانغو من مقام D كبير".