كلمة "كيبوتز" إحدى الكلمات العبرية التي لا تحتاج الى اي ترجمة في لغات اجنبية. فهي معروفة تماماً بخطوطها العامة كابتكار او تجربة اجتماعي، وكواحدة من العلامات المميزة لاسرائيل. وتثار منذ وقت طويل شكوك، حتى في الحركة العمالية الاسرائيلية، حول الجدوى البعيدة المدى لهذا المشروع الاجتماعي الذي يستند على الملكية الجماعية لوسائل الانتاج والعقار الانتماء الى الكيبوتز طوعي بخلاف ما كان عليه الحال في الكولخوز السوفياتي. مع ذلك، كان المراقبون يميلون الى الاتفاق مع الفيلسوف مارتن بوبر الذي وصف الكيبوتز بانه "تجربة لم تفشل" واعتبره انجازاً لا يستهان به بغض النظر عما يُخبئه المستقبل، اخذاً في الاعتبار سرعة الزوال التي اتسمت بها كل التجارب المثالية الاخرى للملكية المشاعة في اوروبا واميركا الشمالية في القرنين التاسع عشر والعشرين. كان هذا هو الرأي السائد الى نهاية السبعينات، على رغم ان العدد المطلق لاعضاء حركة الكيبوتز اتسم بالثبات في احسن الاحوال، بينما انخفضت حصتهم من سكان اسرائيل بما يزيد على النصف من 6 الى 3،2 في المئة. لكن في الوقت الحاضر، بعد انقضاء حوالي 80 سنة ونيف على انشاء اول كيبوتز، تمر الحركة بأزمة اكثر حدة بكثير مما شهدته اطلاقاً في تاريخها المثقل بالازمات، لدرجة ان اصواتاً تُسمع حتى من داخلها ناهيك عما يصدر عن محللين اجتماعيين تتساءل عما اذا كانت التجربة في طريقها الى الفشل. وكان السبب وراء الازمة استثمارات المضاربة التي لجأت اليها كيبوتزات كثيرة، من قبل اسرائيليين كثيرين في مجال الاعمال الحرة، خلال سنوات التضخم المتصاعد في الثمانينات عندما جرى الحصول في "السوق غير الرسمية" على قروض غير مربوطة بمعدل التضخم، على أمل ان تكون قيمتها قد تآكلت بفعل التضخم عندما يحين موعد اعادة دفع رأس المال. فقد ادت الاجراءات الهادفة الى تعزيز الاستقرار الاقتصادي التي طبقها رئىس الوزراء شمعون بيريز بين 1985 و 1986 الى اعادة خلط الاوراق: هبط معدل التضخم من 400 الى 20 في المئة يبلغ حالياً 7 في المئة، وانقلبت كل الحسابات رأساً على عقب: لم يعد رأس المال يتآكل، فيما اصبحت اسعار الفائدة على القروض مرتفعة الى أبعد حد. نتيجة ذلك اصبح ثلث الكيبوتزات في حال بائسة، اذ كشفت الديون الضخمة عدم كفاءة اساليبها الادارية، بل اسوأ من ذلك انها كشفت انتاجيتها المتدنية بعدما كانت انتاجية الكيبوتز تعتبر عالية بشكل خاص وتُعزى الى الاندفاع الذاتي الكبير والتمسك بمبدأ الجماعية. بالاضافة الى ذلك، في الوقت الذي كانت هذه الكيبوتزات المُفقرة تطلب المساعدة، ترددت الكيبوتزات الاكثر نجاحاً ربما تشكل ثلث العدد الكلي في مد يد العون وعاملت "هؤلاء المبذرين" بطريقة تنم عن بخل، وذلك في تعارض مع مبدأ التضامن المقدس الذي كان حتى ذلك الحين يحكم حياة الحركة. اما بالنسبة الى الثلث المتبقي من الكيبوتزات، التي تمكنت بطريقة او باخرى من ان تتجنب تجاوز حدود دخلها، فان الازمة بثت الرعب في اوصالها وجعلتها تعيد تفحص ادائها الاقتصادي والاجتماعي عن كثب، وسرعان ما كُشف عن تدنٍ في انتاجيتها والعوامل المحفزة لها. كما شُخّص اهدار كبير على صعيد الاستهلاك الغذاء، على سبيل المثال، وكذلك في تحديد حصتها من الخدمات العامة كالتعليم. ويعزو خبراء علم الاجتماع المتخصصون في حركة الكيبوتز تدهور الحوافز الى عاملين رئيسيين: أ اصبح الكيبوتز في عالم التكنولوجيا المتطورة الحالي اقل انعزالاً عن التيار السائد في المجتمع، وبالتالي اكثر عرضة لتأثير نزعات الفردية والاستهلاكية والمتعوية التي تتفشى في المجتمع عموماً. ولم تعد الاهتمامات الجماعية - ببذل جهد اضافي في الانتاج او بالحد من الاهدار في الاستهلاك - تتمتع بالقدر ذاته من الجاذبية، حتى في الوقت الذي يبقى فيه المبدأ القديم "من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته" يحكم الحياة في الكيبوتز. ب الكيبوتز يشيخ، و بالتالي في الوقت الذي يرتفع الانفاق على الصحة والرعاية الاجتماعية لغير العاملين، ينتقل عبء الانتاج من اكتاف الجيل الثاني الى اكتاف الجيلين الثالث والرابع. وكان الجيل الثاني يميل الى حمل السمة المميزة القوية لابائهم، اي مؤسسي الكيبوتز المثاليين والمتشددين، ويشاطرهم تقريباً اندفاعهم العالي ذاته تقريباً. اما الجيل الثالث والرابع في الكيبوتزات الاقدم فانه اكثر ميلاً الى مغادرة البيت والتوجه الى المدينة، خصوصاً ان امتحانات القبول في الجامعة وحتى الدراسة الجامعية اصبحت هي الامر السائد بخلاف الحال بالنسبة الى الجيل الثاني، وبامكان افراده الحصول بسهولة على عمل خارج الكيبوتز. ويبدو ان هناك عملية انتقائية من نوع ما: يتصف اولئك الذين يبقون في الكيبوتز بشكل عام بانهم اقل ميلاً الى المغامرة وادنى كفاءة من الآخرين الذين يرحلون بشكل نهائي. كيف تعاملت الحركة مع هذه الازمة؟ بعد فترة من التلكؤ في البداية بدأت الكيبوتزات الاضعف تتلقى مساعدات، لكنها كانت مشروطة. فقد وضع معظم هذه الكيبوتزات "تحت الوصاية" بتعيين مدراء من اعضاء الكيبوتزات الناجحة مع صلاحيات استثنائية لتجديد الانشطة الاقتصادية وترشيد الانفاق وهي صلاحيات كانت مناطة حتى ذلك الحين بمجلس الكيبوتز ومسؤوليه المنتخبين. وعلى رغم هذه الاجراءات الجذرية ليس من الواضح كم من هذه الكيبوتزات سيتمكن من تخطي الازمة، وقد يُضطر بعضها الى التوقف عن العمل او الاندماج مع كيبوتزات اخرى. ولا تزال الحركة الكيبوتزية عموماً متمسكة بمبادئها الاساسية: اولاً، الملكية الجماعية لكل وسائل الانتاج والارض والبنية التحتية والسكن والمباني العامة. ثانياً، كل الدخل الذي يتراكم لدى الكيبوتز واعضائه نتيجة للنشاط الاقتصادي والعمل حوالي 15 في المئة من الاعضاء يعملون خارج الكيبوتز يعود للكيبوتز. كما يُطبّق مبدأ ثالث لكن مع تشديد اكبر على المسؤولية في الجانب المالي عبر توزيع الحصص، مثلا: الكيبوتز مسؤول عن تلبية احتياجات الاعضاء على صعيد التعليم والاسكان والغذاء والصحة والرعاية الاجتماعية. ويسري منذ وقت طويل قدر من توزيع الحصص في الملبس عبر تخصيص ملابس، ويُطبق هذا المبدأ حالياً على الغذاء: يزود الاعضاء "بطاقات تموينية"، حسب حجم العائلة، يمكن استخدامها في قاعة الطعام المشتركة او للحصول على منتجات لاعداد وجبات الطعام في منازلهم. وغالباً ما تُعهد مهمة اعداد وجبات الاكل الخاصة بقاعة الطعام المشتركة الى متعهدين خارجيين اذ تبيّن انهم اكثر كفاءة فتطبيق نظام الحصص على الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية - التي تعتبر تجسيداً للتضامن - غير وارد اطلاقاً. يعني هذا كله، بالطبع، افتراضاً اقل تفاؤلاً في ما يتعلق بالحافز الانساني مقارنة بالافتراض الذي كان قائماً في بداية هذه التجرية المثالية. وحركة الكيبوتز هي الان بالفعل اقل قناعة مما كانت عليه قبل 50 - 70 عاماً بامكان تكييف طبيعة الانسان وتشذيب انانيته بواسطة التعليم والحياة في اطار كيان اجتماعي يقوم على التضامن. ويتعرض هذا الافتراض الاساسي - الذي جعل مارتن بوبر يراقب الكيبوتز بكثير من الامل والخوف - للتشكيك نتيجة جدل آخر يحتدم داخل الحركة. فقد جرت العادة ان ترفض حالاً فكرة المكافأة التفاضلية، ببطاقات التموين او نقود فعلية تُضاف الى المرتّب الاساسي الذي يُعطى لكل البالغين على العمل وحسب عبء المسؤولية في الكيبوتز او الكفاءة والابتكار او المهنة او التدريب او حجم الدخل لقاء العمل خارج الموقع. وبشكل قاطع ترفض "هاشومير هاتزئير"، وهي احدى حركتي الكيبوتز الرئيسيتين وتضم 74 من ال 270 كيبوتزاً، اي شكل للمكافأة التفاضلية. اما الحركة الاخرى، "تاكام"، فلم تحسم موقفها بعد، ولو انها تسمح بقدر من التجريب وتعلق آمالها على رفع كفاءة الادارة وتنويع مصادر الدخل بما في ذلك اغلاق المشاريع غير الكفوءة وارسال العاملين فيها للبحث عن وظائف خارج الكيبوتز. لكن بعض الكيبوتزات غير المنتمية الى اي من الحركتين اختار اعطاء راتب كامل ليس في الانتاج فحسب بل في قطاع الخدمات ايضاً كالتعليم، وقد يمر بعملية تحول الى ما يسمى ب "مستوطنات اجتماعية". هكذا، تجتاز هذه التجربة المثالية عملية تكيّف مؤلمة مع حقائق أقسى. ومع ذلك، لا يزال من المبكر جداً القول انها افلست، فهناك حسب التقديرات حوالي 190 كيبوتزاً تملك موارد بشرية واقتصادية، فضلاً عن التضامن، تتيح لها النجاة من العاصفة، مقابل مزيد من التضحيات والابتكارات. فهذه التجربة المثالية لم تفشل بعد. وهي تستمر.