تتكون غالبية الدول الأعضاء في الأممالمتحدة من مجتمعات متعددة الانتماءات الاثنية وكلها تقريباً مكوَّنة من مجتمعات متعددة ثقافياً. والدول التي تتشكل من أمم ذات صفاء اثني قليلة جداً. لذلك نحن ضحايا وهم، عندما نتحدث عن هذه الدول بمفهوم الدولة - الأمة. والمقصود بالمجتمعات المتعددة التي ينقسم أعضاؤها الى فئات أو جماعات نسبة الى اللغة التي يتكلمون أو العرق أو الانتماء الإثني أو الأصل او الدين أو الثقافة التي يعبّر عنها عادة من خلال المؤسسات الاجتماعية الخاصة. ويُعتبر احد هذه العوامل كافياً في بعض الحالات لتحديد الأسس الاجتماعية للانقسام كما في حالة الاختلاف العرقي. فالدولة هي كل البنى التي يقع على عاتقها واجب ممارسة الوظائف العليا تجاه المجتمع وهي التي تقوم بالتنسيق في ما بينها. ولكي تعتبر هذه الدولة شرعية من جانب المنظرين كما من جانب السياسيين يكفي أن تتمتع مؤسساتها السياسية بالاستقلالية والسلطة التي تعطيها حق التنظيم الشرعي لقضايا ومنافع الشأن العام وللجماعات المختلفة التي تشكل منها المجتمع المعني. والآن، يمكن طرح السؤال حول دور وشرعية الدولة الحديثة في الأطراف. فالنظام العالمي الحديث أدخلها الى العالم، فسمح بذلك للتشكيلات الاجتماعية الطرفية أن تأخذ مكانها في الاقتصاد العالمي وفي نظام العلاقات الدولية. ولكن ما هو دورها في مجتمعات جنوب الكرة الأرضية؟ هل يمكن أن يكون محطة وساطة وقاعدة للنمو الاقتصادي والديموقراطية السياسية؟ يمكن البحث عن الجواب في وظيفتين للدولة الطرفية الحديثة مرتبطتين جدلياً: ان تكون وفي الوقت ذاته محطة في مسار استخراج الفائض والتراكم من الأطراف باتجاه المركز، وبالعكس مركز سيادة وتحرر وادارة ذاتية للمجتمعات الطرفية. وفرص النمو الاقتصادي والديموقراطية للتشكيلات الاجتماعية الطرفية ترتبط بقدرة الدولة الحديثة على أن تكون مركز سيادة وادارة ذاتية أكثر منها محطة للاقتصاد العالمي الرأسمالي، وأن تتجاوز لمصلحتها التناقض الجدلي الحاصل بين هاتين المقولتين. وترتكز شرعية الدولة الطرفية الحديثة أساساً على ركنين اثنين: الأول، هو قدرتها على تحقيق السيادة الوطنية، والثاني، هو الإدارة الذاتية الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية والثقافية للتشكيلة الاجتماعية في اطار النظام العالمي. وهذا ما يفرض تغليب قيم الديموقراطية في كل المجالات واحترام حقوق الإنسان. في هذا الخصوص، يجب القول ان بناء الأمة لا يتعارض بل يتوافق مع حقوق الشعوب وحقوق الإنسان، لأنها التعبير عن الإدارة الذاتية للتشكيلات الاجتماعية الطرفية، ومن دونها، ليس من أمل في تحقيق تقدم في دول الجنوب نحو الديموقراطية واحترام حقوق الإنسان. يفرض هذا الاعتراف ببعض العوامل الخاصة بالتشكيلات الاجتماعية الطرفية، والمرتبطة بخصائص المجتمعات المحلية التي هي أسبق بالوجود من الدولة وغالباً ما تكون خارج اطار تشكل الدول الحديثة في الأطراف. وتشكل هذه العوامل في بلدان الجنوب نسيجاً كثيفاً وحياً مكوناً من مؤسسات وحركات اجتماعية وأخويات وشبكات من علاقات التضامن الجماعي وعلاقات السلطة، ومن رموز لها خصوصيتها. إن لهذه العوامل، وبحسب كل حالة، أسساً دينية أو إثنية. فالدولة الطرفية وبهاجس أن تتحقق وأن تمتلك الأجهزة الضرورية لذلك، وأن تحقق اندماج الجماعات في الأمة، تجاهلت هذه الجماعات واعتبرتها حواجز يجب هدمها. وبفعل هذا التوجه للدولة، فإن الحركات الشعبية وشبكات المؤسسات التضامنية، التي كان يمكن تحويل بعضها وتشغيلها في اطار تشكل الدولة الحديثة في الأطراف، عملت كبدائل عن السلطة وكمراكز مقاومة للدولة التي تسعى الى استبعادها. كان على الدولة الطرفية ان تعتمد على هذه القوى الاجتماعية حتى يصلب عودها وتخلق الشروط المناسبة للنمو الاقتصادي وللديموقراطية. إنها، ومن دون شك، مهمة صعبة لأن عدداً من هذه الأطر الشعبية غير قابل للاندماج في التحولات الضرورية لبناء الدولة الحديثة. بل انها تبدو وكأنها قوى بديلة عن الدولة وموازية لها في تحقيق الحاجات الاجتماعية وممارسة السلطة، والدولة في الأطراف، يجب ألا تكون نسخة سيئة عن الدولة الغربية، فالتجديد السياسي والاجتماعي ضروريان لها. وعلى طرق التجديد ان تأخذ في الاعتبار المسارات السياسية والثقافية الشعبية. إن الديناميات الخاصة بتشكّل الدولة في البلدان الطرفية هي بحدّ ذاتها اشكاليات معقدة، فكيف بها في ظل الاقتصاد الرأسمالي العالمي ونظام العلاقات الدولية السائد حيث تمنع على بلدان الأطراف، الإدارة الذاتية وتوضع الحواجز في وجه تنميتها. ان تحول النظام العالمي الحديث باتجاه علاقات أقل استغلالاً للدولة الطرفية هو من الشروط الضرورية - لكن غير الكافية - من أجل تصليب عود الدول ومن أجل الديموقراطية في مجتمعات هذا العالم. ثلاثة شروط لبناء الدولة الحديثة (دولة المؤسسات والقوانين) لا يمكن في لبنان أن يتحقق أي منها: لقد نشأت الدولة الحديثة في دول المركز (أوروبا) وفي المجتمعات التي استقلت قبل الحرب العالمية الثانية (البرازيل، بلغاريا، تركيا...) بفعل تراكم تاريخي لشروط ثلاثة هي: 1 - وجود تيار حضاري مركزي مهيمن داخل هذه المجتمعات، تتأطر حوله الأقليات الإثنية والثقافية والدينية التي تعيش في تلك المجتمعات. 2 - ممارسة هذه الدولة لسيادة وطنية غير منتقصة على أراضيها. 3 - ممارسة هذه الدول للسياسات الاقتصادية التي تتناسب مع واقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. أما في لبنان، فلا مجال لتحقق أي من هذه الشروط، فالشرط الأول لا يتوافر بفعل واقع التركيبة اللبنانية المعروفة من مجموعة أقليات. أما الشرطان الثاني والثالث فلا مجال لتحققهما، لا في لبنان ولا في البلدان التي استقلت بعد الحرب العالمية الثانية، بفعل تمركز رأس المال العالمي وسيطرة اقتصاد السوق، ما أدى الى الانتقاص من سيادة الدول واستتباعها اقتصادياً. وعليه فلا مجال لبناء دولة حديثة من حيث هي علاقة بين المواطن والدولة من دون المرور الإلزامي بالمكونات الاجتماعية التي يتكون منها المجتمع اللبناني. وهنا لا بدّ من ذكر بعض التجارب: أولاً: في مصر، وفي عهد الرئيس جمال عبدالناصر، حيث كانت العروبة، عاملاً توحيدياً فاعلاً في المجتمعات العربية في حينه. أجريت انتخابات نيابية عام 1964 (أي قبل هزيمة 1967) فلم ينتخب أي مرشح مسيحي، مما اضطر عبدالناصر لتعيين 12 عضواً في البرلمان المصري في حينه. ثانياً، في بريطانيا، احد اعرق المجتمعات الديموقراطية في العالم، قتل مواطن انكليزي من أصل آسيوي على يد الشرطة البريطانية في احدى ضواحي لندن عام 1988. استدعى هذا الحدث ولفظاعته عندهم، عقد اجتماع لمجلس العموم البريطاني وتكليف لجنة للتحقيق في الحادث. ورفعت اللجنة المعنية تقريرها ليتضمن الآتي: «ان المواطنين الانكليز متساوون أمام القانون البريطاني في معزل عن أصولهم العرقية، إلا أن الممارسة الاجتماعية للمواطنين من أصول عرقية بريطانية، عبر الأجيال، تميز سلباً المواطنين الانكليز المتحدرين من أعراق أخرى، آسيوية أو سوداء أو عربية وغيرهم. لذلك يجب أن يعطى هؤلاء الأخيرون امتيازات بالقانون حتى يتساووا بالممارسة الاجتماعية مع المواطنين الأصليين». وعليه، فإن الصيغة الطائفية في لبنان هي التي حمت التنوع فيه، الذي يشكل نقيضاً للوجود الصهيوني العنصري، والتي حمت أيضاً الحريات التي تشكل نقيضاً لما هو سائد في عالمنا العربي في شكل عام، في هذا البلد «الرسالة» على حد تعبير البابا يوحنا بولس الثاني و «النعمة» على حدّ تعبير السيد حسن نصرالله. إلا ان تحجُّر الصيغة الطائفية كان أحد أسباب الحرب الأهلية عام 1975، وبالتالي فإن انفتاح الصيغة الطائفية اللبنانية وقدرتها على استيعاب الحركات والقوى الاجتماعية داخل الطوائف اللبنانية وفي المجتمع اللبناني بعامة هما شرط استمرارها. وتوجد ثلاثة شروط تسمح للصيغة الطائفية بالاستمرار والتجدد هي الآتية: 1 - اعتماد نظام النسبية في الانتخابات النيابية وعلى أساس الدائرة الصغرى. 2 - اعتماد مبدأ الخصخصة: ان الصيغة الطائفية هي التي تحدد مساحة المشترك بين الطوائف اللبنانية وتوزيع الحصص فيها والتي علينا العمل لتضييقها قدر الإمكان من خلال الخصخصة، حيث يمكن ذلك، بهدف تضييق مساحة القطاع العام الذي يشكل موضوع تنازع بين الطوائف. 3 - تطبيق مبدأ الإنماء المتوازن: ان البحبوحة المعيشية هي شرط ضمان حفظ حرية اللبناني وصون كرامته الشخصية. فأي نظام اقتصادي يمكن أن يهدد حرية اللبناني أو كرامته يعرض البلد لعدم الاستقلال الاجتماعي. واقترح ثلاثة شروط لتحصين المقاومة وطنياً: 1 - الاقلاع عن أي خطاب معاد للمقاومة تحت أي عنوان كان باسم الشرعية الوطنية أو الشرعية الدولية. 2 - الإقلاع عن أي خطاب يعتمد التحريض الطائفي أو المذهبي في اطار مناقشة سلاح المقاومة سلباً أو ايجاباً. 3 - ان تقترح قيادة المقاومة صيغة لتشريع هذا السلاح (أي وضعه في اطار الشرعية اللبنانية) وذلك ضمن حدين اثنين: الأول هو المحافظة على قوة هذا السلاح في وجه العدو الصهيوني من خلال المحافظة على بنيته كما هي. والثاني هو نزع صفة الفئوية عن القرار المتعلق بهذا السلاح من خلال تشريعه (أي وضعه في اطار الجيش اللبناني) بما يتضمن تأمين الحصانة الوطنية له وللمقاومة التي تحمله وترعاه، لأن الدفاع عن لبنان هو مهمة وطنية وليس مهمة فئوية. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.