- 1 - في حمرةٍ ضاربة، هناك، حيث العنف والتشكيل والأسى، كثيراً ما تتحول الكلمات الى عتبات وأسرّة وأمكنة تنهبُها الفتنة وفراشات صغيرة في قبضة هواء متلعثم. في كلماته تتعرف على البذرة الأولى لتكوّن الخيال وطريقة صنعه: "فمن استعاراته المحكومة بالبصر" 1، الى خيالاته المتولّدة من حكايات الغجر والقديسين، وانتهاءً بروح اسبانيا، وأقاصيص "البالاد" التاريخية… والموت في ركنه يتماثل الى الحدّ الأقصى للجمال. الكتابة التي كانت بمثابة قربان بين يديه، وشكل من السطوة والمحاذاة بين مقاربة الهاوية والسخرية منها، هكذا بنقطة التوحد العمياء والاستعارات المتداخلة وهي تتخضّب بنيران وكواكب وتماثيل مرمرية. بمزيج من المسرح اليوناني، وشكسبير، والأعمال الكلاسيكية الاسبانية، وانجازات التراث الصوفي الاسلامي والشعر الاندلسي العربي، وأعمال ماتشادو وأونامو وأثورين والرومانتيكيين من الشعراء الاسبان، الى روبن داريو وخوان رامون خيمنث… ناهيك عن الرسامين والنحاتين أمثال بيكاسو وسلفادور دالي وخوان ميرو وتأثير التيارات الفنية المعاصرة آنذاك… كل ذلك شكّل خياله وأسلوبه حيث جوهر الفن لا تُميّزه إلا حركة انفجاره في الأعماق لتتحول المفردة الى أنفاس جسدٍ مصقولٍ، وضرباتٍ وصراخٍ وغسق. ازاء مشهدية شعره بامكاننا الوقوف محتضرين أمام الكسوف الهائل، العالق بجسد قرطبة. قرطبة المرتجفة من اللمس، يقطفها العرّافون وفرسان قرطاجنة، أبناء صور، من بين ثلاثمئة وردة سمراء وهي تصيح: اختبأ وجه مارس في الفضة. أعاد لوركا انتاج الوهم والموروث في تعابير الذاكرة الاسبانية الجمعية، ومنابع الهاماتها. وهو في هذا الاستكشاف يحقق كتابة روح اسبانيا ومآثرها على طريقته، تُسارها "بالاد" جديدة، وروح شبحيّة أكثر رسوخاً، تُردّد بفم أزرق، وعلى مرأى من الرعاة وملوك قشطالة: - في البدء كان الغناء. يشكل الموت في شعر لوركا حركة حواسه، وهو بمعنى ما يمثل أساس عالمها الأخلاقي الذي تستمدّ منه قوّتها وقدرتها على تكوين المساحة التي يتم عليها تحرير العالم المرئي من صداه المعتاد، والمجازفة به نحو مكان غير ممسوك: أي شكل انتقاله من قوة الوجود الى قوة الخيال. الخيال كوجود مكتمل بعناصره السرية والمفضوحة التي يستطيع لمحها او سماعها من الأثر الذي تطبعه حركة الضوء والظلال في الحواس المتهيئة لاطلاق صرخة جريحة توازي او تجاوز صرخة ايكاروس الطائر بأجنحته الشمعية نحو الشمس. الشعر هنا يوازي، جمالياً، السعي الى تجسيده من خلال الموت. هذا ما فعله الأندلسي اغناثيو سانثيث ميخياس في مسرح مصارعة الثيران حين قرّر الاقامة في البريق الذي تمنحه دائرة الموت، بدل ان يكون مجرّد اطار شعبي للتسلية وهتافات الجماهير الحماسية. في هذه اللحظة بالامكان رؤية ذلك اللمعان الهازيء والمهيّأ لبناء مملكة - ما سمّاه لوركا - الروح المبدع. لم أرغب تذكّر وجه أغناثيو وخصره المضفور بزهرةٍ المانوليا، ووقع أقدام تحت ضوء القمر، فالقيثارات المضمومة الى أصابع النحاس تشبه طيوراً ميتة من العطش. لوركا الذي حطّم الحدود الفاصلة بين لثغة اللسان ودوران الريح ومزج بين الطيور والشرفات المكسّرة النوافذ في غرناطة، غرناطة العالم والبوابة التي خرج منها الملك الصغير كأيّ عاشق لم يستطع ان يتعلم كيف يُشيّد الليل من الحجارة الزرقاء. تُمثل غرناطة بالنسبة الى لوركا بيت الحلم، ويوتوبيا الجماليات الحسية لعهد الازدهار الأندلسي في القرون الوسطى، والتشكيل الراسخ للزمن والمكان المفرط بسحره الميتافيزيقي والسوبرماني. "انا من مملكة غرناطة" هذا ما أكده لوركا لصديق حاول ان يُعيّره بماضيه في أحد مقاهي برشلونة، لم يقل انه من الاقليم بل من مملكة غرناطة، مقاطعة تاريخية أسطورية، صوفية… 2 ديوان لوركا "شاعر في نيويورك" محاولة لقراءة "الأرض الخراب" بعين أخرى ومن موقع حدّدته صيغة النظر، وموقع الناظر من المكان وفراغه الهندسي. تبدو نيويورك في شعر لوركا، على رغم بلاغة مبانيها وناطحاتها النحتية، غير ملتصقة بالأرض، وما هي إلا شكل خارجي، وامتداد أفقي حامل لامتداد عمودي، كوني، يتجلى بصيغة الألم البشري في أعلى أشكال احتوائه داخل بلاغة الهشيم. المكان، هنا، صيغة موجودة بالقوة لهندسة الألم والموت معاً: "واهارلم المهرج واهارلم المهدّد بحشد بذلات بلا رؤوس. اليّ تصل تأوهاتك اليّ تصل تأوهاتك مجتازةً جذوع الأشجار، وفي المصاعد، وعبر لوحات رمادية حيث تطفو سياراتك المغطاة بالأسنان، وفي الجياد الميّتة والجرائم البسيطة وفي ملككَ العظيم البائس ذي اللحية التي تلامس البحر". "إذا متّ. دعوا الشرفة مفتوحة". يكتسب هذا المشهد عتبةً لمدى قدرة الصورة على الاثارة وامكانات تحقق خيالها التنبؤي، المعدني، بانتقال امكان حدوث الموت من مستوى تجريدي ومكثف، الى مظاهرة جنائزية، ومرثاة مصنوعة من ضفائر ومهرجانات سرّ ودم. ليس صدفةً ان يُساق لوركا لزواج البراري. لقد تحوّل جسده المقتول الى شرفة مفتوحة. هوامش 1 - لوركا "الأعمال الكاملة"، ثلاثة اجزاء. ترجمة محمد خليفة التليسي. الدار العربية للكتاب - ليبيا 1992. 2 - المصدر نفسه.