Quentin Skinner. Liberty before Liberalism. الحرية قبل الليبيرالية . Cambridge University Press. 1998. 142 pages. لما كانت النظريات والمناهج الفكرية تقدم الى سوق الأفكار العربية وكأنها آخر ما توصل اليه العلم من مكتشفات، ولما كان العلم في ثقافة تضيء دروبها قناديل علماء الدين وعلماء "الاشتراكية العلمية" وعلماء الحداثة وغيرهم ممن هم على طرازهم، فإن العلم يعني ما لا مناص من التسليم به كيقين لا ريب فيه. هكذا يصبح من غير المستغرب ان يسرد تاريخ الأفكار كما تروى "سيرة أبي زيد الهلالي". فالمؤرخ أو الباحث العربي بهذا المعنى، اذ يقرأ تاريخ الأفكار، معزولة عن المدارات أو السياقات التي تنمو في كنفها، أو مقيدة بسلاسل من حديد الى ما يسمى ب "البنية التحتية"، لا مناص من أن يسرد تاريخه على وتيرة صراع ما بين طرفين كالعقلاني واللاعقلاني، أو العلمي واللاعلمي، أو التنويري والظلامي، أو المثالي والمادي، أو الثابت والمتحول، أو التاريخي واللاتاريخي... الى ما هنالك من ثنائيات متضادة. اذ لا يمكن أن تتجاور نظريات ومناهج ومدارس وأفكار متباينة، طالما ان الأمر يتعلق ب "مكتشفات" علمية لا مناص من أن يكون الصواب فيها حكراً على طرف دون آخر. لذلك فإن الباحث من هذا الطراز هو وريث القصاص التقليدي، أي "الحكواتي"، من حيث أنه يروي حكاية ليوصل عبرة ما أو لكي يرفه عن مستمعين سرعان ما ينفضون عنه ويعودون الى مشاغلهم الحقيقية. في حين لا يسوغ دور كهذا لباحث أو مؤرخ أفكار لا يرى مادته الا موضوعاً قابلاً للجدل وبالتالي للبرهان أو للدحض. لهذا فحينما يتناول باحث مثل كوينتن سكنر، استاذ التاريخ الحديث في جامعة كامبريدج، فكرة الحرية غداة الحرب الأهلية في انكلترا عام 1642، فهو لا يتناول الأمر من زاوية الصراع ما بين أعداء الحرية واصدقائها، ليس لأنه لم يكن هناك صراع من هذا النوع، ولكن لأنه لا يعول على عامل كهذا كي يستقيم هيكل دراسته. فهو من جانب ينبري لنبش اسهامات من يعرف بأصحاب "نظرية الروماني الجديد"، أي اؤلئك الكتّاب الانكليز ممن حاولوا استلهام التجرية الرومانية في الحكم في دعوتهم الى حكم جمهوري. ولقد كان لهؤلاء أعداء من دون شك، لكن الأهم في ما يعني مؤرخ الأفكار هو نقادهم ومنافسوهم، وهم أصحاب المذهب الليبيرالي الذين باتت أطروحاتهم هي الايديولوجية المهيمنة، بعدما رست الحياة السياسية وفقاً لها. وإذ يحاول الباحث، من جانب آخر، تقديم اسهام تاريخ الأفكار في ما يتصل بالسياسة في الحاضر، في اشارة مضمرة الى الجدل الدائرة اليوم حول مستقبل الملكية البريطانية، فهو لا يرمي الى تقديم بيان "ثوري"، أو اجابة عن سؤال "ما العمل؟"، بقدر ما يحاول اغناء النقاش من خلال احياء ما كان قد انتهى الى النسيان رغم أنه لم يفقد صلته بالحاضر. بل ان الباحث يترك الأمر في النهاية للقارئ كي يقرر بنفسه ما هو الأصوب. ولعل من انضج ثمرات دراسة سكنر هذه، المنهج الذي أملته وتوسلته. فدراسة كهذه تتطلب منهجاً في تأريخ الأفكار مغايراً لتلك المناهج المعهودة التي ينحصر اهتمامها بالنصوص الكلاسيكية المرجعية. فخلافاً لأصحاب المذهب الليبيرالي، من هوبز الى اشعيا برلين، فإن اسهامات أصحاب نظرية "الروماني الجديد" لا تنتمي الى مرجعية الفكر السياسي البريطاني. وهذه واحدة من امارات النهاية التي انتهت اليها. فيعمد سكنر الى القاء الضوء على جملة نصوص تعتبر اليوم هامشية وليست ذات قيمة تذكر. ذلك ان محاولة كهذه كفيلة، على ما يرى الباحث، في تقديم فهم واع لجملة من المفاهيم التي تستخدم اليوم على نحو لا واع ومفتقر الى الانسجام أيضاً. فعلى سبيل المثال فإن فكرة ان "الدولة جسم اصطناعي يناط بممثليها حمل حقوق السيادة باسمه"، هي فكرة لا تزال تقع في قلب الفهم والممارسة السياسيين في الغرب، إلا أن ثمة القليل ممن يدرك بشكل واف معنى أمر كهذا. وهذا ما قد يحض على فهم أفضل من خلال العودة "الى الفترة التاريخية حين تم الافصاح عن هذا الفهم السياسي والعمل على تطويره". وهذه احدى السبل التي تفضي الى "نظرية الروماني الجديد". اذ كان أصحاب هذه النظرية قد انتهزوا فرصة الحرب الأهلية للدفاع عن معارضة البرلمان لسلطة التاج. فجادل هؤلاء بأنه إذا ما كانت أفعال أمة أو دولة عرضة لأن تقرر من قبل من هم غير من يمثلون الجسم السياسي، فإن هذا يعني أن الأمة أو الدولة معدومة الحرية. اذ حتى لو أن هذه الأمة لم تقع في قبضة سلطان استبدادي، أو ان حكامها اختاروا اتباع ما يمليه القانون بما يحفظ حقوق الشعب الدستورية، فإن أمة كهذه تعتبر في حالة عبودية طالما أنها تعتمد في قدرتها على الفعل على من هم أو هو غير جسم مواطنيها السياسي. وقد رأى أصحاب هذه النظرية أن الجسم السياسي كالجسم الطبيعي، وان ثمة دربين متمايزين يفضيان الى العبودية العامة إذا ما حرم هذا الجسم من حريته السياسية. أولاً، إذا ما عُطلت قدرته قسراً عن الفعل الارادي في طلب غاياته المنشودة. وثانياً إذا ما أتاح الدستور الداخلي للدولة ممارسة أية صلاحية اختيارية أو امتيازية من قبل هؤلاء الذين يحكمونها. وقد خلص هؤلاء الى أنه في دولة مجردة الحرية بهذا المعنى لا يكون أحد حراً. وقد أثارت محاججة كهذه حفيظة نقاد عديدين. فرد هوبز أنه من اللبس ربط قيام نظام سياسي حر بالحفاظ على الحرية الفردية. إذ أصر هوبز والليبيراليون من بعده، على الفصل ما بين الحرية العامة والحرية الخاصة. فرأى هؤلاء أن القوة أو التلويح بها هو وحده ما يمثل اشكالاً للاكراه التي قد تعترض الحرية الفردية. والى هذا ذهب اشعيا برلين قبل عقود قليلة فحسب في محاضرته الكلاسيكية "مفهومان في الحرية"، 1958 حينما جادل بأن من غير الصواب ربط الحرية الفردية بالديموقراطية، أي بنظام سياسي يصل الى السلطة بمشيئة المواطنين. وقصارى ما ذهب اليه الليبيراليون في نظرهم الى مسألة العلاقة ما بين النظام السياسي والحرية الفردية، الاقرار بأن نظاماً سياسياً كالذي يخشاه أصحاب نظرية الروماني الجديد، لا يعني بالضرورة انعدام حالة الحرية وانما انعدام ضمانتها أو ضمانة ديمومتها. بدورهم جادل دعاة "الروماني الجديد" بأن الأمر يتعدى خطر انعدام ضمانة الحرية إذ رأوا أن العيش في حالة اتكال على النوايا الحسنة للسلطان هو بحد ذاته مصدر وشكل من أشكال الاكراه. إذ أن ادراك المرء أنه يعيش في حالة كهذه كفيل بإثباط عزيمته في مزاولة حقوقه المدنية. فخوفاً من اغضاب أصحاب الامتيازات والنفوذ يعمد المواطن في حالة كهذه الى ممارسة رقابة ذاتية تجنباً للعواقب. فالمواطن والحالة هذه يفتقر الى شجاعة التصريح أو فعل ما يوجبه الصالح العام طالما وجد نفسه مضطراً الى قبول ما يصدر عن اؤلئك الذين يتمتعون بحظوة الحاكم، حتى وان لم يتوافق ذلك مع الصالح العام. بل أنه من المرجح أن يلعب دور الطفيلي سعياً الى ارضاء اصحاب النفوذ والحظوة. وهكذا يتحول المرء من مواطن يتمتع بحقوق الى فرد ذي "شخصية ذميمة"، وأقرب الى العبد منه الى المواطن الحر. سكنر، على ما سبق وأشرنا، غير معنى بسرد حكاية تقوم على الصراع ما بين الخيرو الشر. لذلك فعلى رغم أنه يزود قارئه بالأسباب والظروف التي أدت الى خبو "نظرية الروماني الجديدش، إلا أن ما يحرص على ابرازه بشكل خاص هو أطروحات هذه النظرية مقابل اطروحات الليبيرالية التي استتب لها الأمر في نهاية المطاف. وحيث أنه باحث وليس قصاصاً تقليدياً، فهو لا يجمل الأمر بحِكَم أو بعبرة، وانما يترك الأمر للقارئ كي يقرر بنفسه ما اذا كان ايثار الاطروحات الليبيرالية على تلك التي جاءت بها نظرية "الروماني الجديد"، كان أمراً سليماً. فالباحث لا يتمتع بسلطة "الحكواتي" الذي لا ينطق إلا عن "علم" لا سبيل الى الشك فيه. أو على الأقل، هذا ما تشي به مؤلفات "قصاصينا" العرب.