حينما قرأت خبر تأسيس جمعية صداقة اسرائيلية - عراقية، تعد لعقد مؤتمر في تل ابيب "بحضور المعارض العراقي ضياء كاشي الذي يقيم في لندن" الحياة، 29/3/1998 استفزني الخبر كثيراً، ليس لأننني اعرف ضياء كاشي، وانما لانني ادرك تماماً مدى ما تسببه مثل هذه الاخبار من اساءات بحق المعارضة العراقية ككل. فضياء كما عرفته "الحياة" معارض عراقي، وليس كما استدرك هو الامر وعرّف نفسه - فيما بعد - في مقاله في "افكار" - "الحياة" في 16/4/1998 ك "رجل اعمال عراقي مقيم في بريطانيا". في اليوم التالي على نشر خبر "الحياة" صدقت مخاوفي، فخرجت علينا بعض وسائل الاعلام العربية الموالية لبغداد تتحدث عن "وفود" من المعارضة العراقية تعتزم زيارة تل ابيب، لابرام صفقات سرية مع "الموساد الاسرائيلي" لاطاحة نظام صدام! في ذلك اليوم 29/3/98، اي قبل ان تستغل وسائل الاعلام خبر "الحياة" وتضخمه دعت المعارضة العراقية الى عقد اجتماع لها في لندن، طالب فيه كاتب هذه السطور المعارضة بتحديد موقفها من المعارضين أو المحسوبين عليهم، الذين لديهم علاقات باسرائيل ويترددون عليها سراً أو علانية. واذا بأمين عام منظمة حقوق الانسان في العراق، الدكتور صاحب الحكيم، يطالب بكشف الاسماء المقصودة بدلاً من التحدث بالعموميات. كان من البديهي ان اذكر اسم ضياء كاشي كآخر الزائرين الى اسرائيل، مشيراً الى مصدر الخبر وهو "الحياة". فقد سبق هذا آخرون زاروا اسرائيل، منهم كنعان مكيّة لاسباب "اكاديمية" وعبدالقادر الجنابي لاغراض "ادبية" وضياء كاشي لدواعي "جمعية"، وهناك زائرون سريون لحاجات "سياسية أو مالية" لا فرق! ترى ما الذي داهم العراقيين فجأة؟ وما علاقتنا نحن باسرائيل؟ منذ فترة يغازل الدكتور احمد الجلبي اللوبي الصهيوني في الولاياتالمتحدة عن طريق المقابلات الصحافية أو اللقاءات التي يجريها مع افراده بحجة كسب عطفهم، كونهم يتمتعون بتأثير كبير على قرارات الادارة الاميركية، وهو يتأمل دعمهم وتأييدهم. وفات الجلبي ان هذا اللوبي لا يعمل الا لمصلحة اسرائيل فقط. وقد سبقه المرحوم الملا مصطفى البرزاني بأربعة عقود من الزمن، يوم اقام علاقاته مع اسرائيل واللوبي الصهيوني متأملاً دعمهم لقضية شعبه الكردي. واذا بهم يخذلونه ويتركوه يلاقي مصيره وحده في احلك الظروف والساعات. لقد التقيت ضياء كاشي بعد عودته من اسرائيل، يوم السبت في 11/4/1998 وسألته عن رحلته، فحكى لي بعض ما ارسله الى "الحياة" ثم نشر في 16/4 مجيباً عن سؤال مهم: "لماذا ذهبت الى اسرائيل؟ لماذا شاركت في جمعية الصداقة الاسرائيلية - العراقية؟". ففي هذا المقال يُقدم كاشي نفسه كشيعي مضطهد اعطت اسرته ضحايا كثيرين، ما يرتب على عاتق الشيعة مسؤولية كبيرة تتمثل في "البحث عن باقي المضطهدين كالاكراد والتركمان والاشوريين وغيرهم، ومساعدتهم والتضامن معهم". ومن هذا المنطلق تعاطف مع اليهود، لما تركوه في نفسه من آثار وذكر طيب. فكان ذلك "عنصراً ضمنياً وراء قراره بالسفر الى اسرائيل". لا شك في ان خطاباً ملغوماً كهذا يُعد خطيراً اذا ما ساد في اوساط المجتمع العراقي. فهو يبطن القاء اللوم في كل ما جرى في العراق من تدمير ومأساة على "سُنّة العراق" منذ العهد الملكي وحتى وقتنا الحاضر. وهذا من شأنه ان يباعد بين طوائف وقوميات العراقيين، بخلاف الواقع. فالمشكلة الاساسية في العراق، هي مشكلة "نظام حكم" وليست المشكلة "الطائفية" أو "العنصرية". وقد كان جلّ هم حكام العراق، المحافظة على مواقعهم ومناصبهم، مستخدمين سياسة البطش والتنكيل بكل من يهددهم، او يشكل خطراً عليهم، بغض النظر عن هويته او طائفته او دينه. وخير دليل على ذلك ما ارتكبه نظام صدام، فهو اعدم الشيخ عبدالعزيز البدري وهو سُنّي قبل ان يعدم السيد محمد باقر الصدر وهو شيعي بسنين. صحيح ان هذا النظام حاول جاهداً انماء الشعور الطائفي والعرقي البغيض في العراق. لكنه فشل فشلاًَ ذريعاً في ذلك، لأن العراقيين كانوا دائماً متنبهين للحيلولة دون العزف على مثل هذه الاوتار النشاز. يحدثنا ضياء كاشي في مقاله عن صديق شخصي له وهو يهودي اسمه داود ساسون كان سبب زيارته لاسرائيل، بعد ان اجرى عملية قلب ناجحة وفكرَّ "في تشكيل لجنة تضامن مع الشعب العراقي". ولا اظن ان هذا سبب كاف للاقناع بالاقدام على خطوة كهذه. فكثيرون منا "نحن العراقيين من غير اليهود" لدينا صداقات وعلاقات بيهود عراقيين، سواء من كان منهم في العراق ام خارجه، ولا اشكال في ذلك. كاتب هذه السطور مثلاً، ما زال يتذكر وقوفه يوماً لاعوام 1989 - 1991 الى جانب احد زملائه المحامين، يدافع عن اوقاف تعود للطائفة اليهودية الموسوية قررت امانة بغداد العاصمة، مصادرتها لهدمها، في احد اعرق شوارعها شارع الرشيد بحجة اجراء توسعة وتغييرات في هذا الشارع. وحينما اسأل اليوم عن بعض ابناء الطائفة ممن تعّرفت عليهم، يقال لي انهم هاجروا الى اسرائيل. فهل هذا مبرر كاف لي لزيارتهم في اسرائيل؟! ليست المشكلة في علاقاتنا مع اخواننا اليهود العراقيين. انما الطامة الكبرى في ان يشدَّ الرحال عراقيون باسم المعارضة الى اسرائيل. فضياء حرُّ في اقامته علاقات مع من يختار، ولكنه ليس حراً في اقامتها تحت عنوان "معارض سياسي لنظام صدام". لأننا في المعارضة نخوض قتالاً شرساً مع نظام، يصوره بعض العرب - للأسف الشديد - بانه العدو الأول والوحيد لاسرائيل والولاياتالمتحدة، بينما ينظرون الى المعارضة العراقية من جانب آخر، على انها مجموعة من العملاء للموساد الاسرائيلي وال سي. آي. أي. في حين المعارضة الحقيقية والنزيهة براء من كل ذلك. وجهت سؤالاً للأخ ضياء كاشي حول ولاء اليهود العراقيين في اسرائيل ان كان لهذه ام للعراق؟! فلم يجبني انما قال لي: "هذه هي المشكلة" وزودني بنسخة من بيان تأسيس الجمعية الصادر في الأول من آذار مارس الماضي بعنوان "عراقيون في اسرائيل يؤسسون جمعية للصداقة عع الشعب العراقي". وبعد دراستي البيان، وجدت ان ولاء هؤلاء لاسرائيل تلك التي قامت على أرض عربية اغتصبوها وشردوا اهلها منها. وليس فيه اية اشارة لحنين الى الوطن، فضلاً عن العودة اليه! كما ان هدفهم من اقامة هذه الجمعية هو "ضم العراق في نهاية المطاف الى عملية السلام في الشرق الأوسط". وهم يرون ان من واجبهم المبادرة الى جمع "وتسجيل شهادات الباقين من يهود العراق قبل فوات الاوان". اما أنا كعراقي لا أفرق بين ابناء وطني، فطموحي عودة اليهود العراقيين كغيرهم من الذين هُجروا قسراً الى بلدهم العراق، واستعادة حقوقهم وممتلكاتهم كافة، والاقتصاص من المتسببين في ظلمهم وايذائهم. والا ليس من المعقول ان يستمر ظلم هؤلاء الناس لخمسة عقود من الزمن من غير مبرر. اتذكر انه في مطلع الثمانينات بدأ وزير الحكم المحلي في العراق سعدي عياش عريم، فتح ملفات اليهود العراقيين المسفرين وتصفية اموالهم وممتلكاتهم، لاغراض اجراء التعويضات بناء على قرار اتخذه صدام حسين. سألت الوزير بعد سنين ما اذا تمت التقديرات وفقاً لاسعار الخمسينات ام الثمانينات، فأجاب جواباً لم اسمع مثله في حياتي. قال: "كلا، انها تتم طبقاً لاسعار الخمسينات، لكننا نسلمهم التعويضات بالدينار العراقي طبقاً لسعر الصرف اليوم". ومعنى هذا الجواب ان اليهودي العراقي يخسر مرتين. مرة حينما كانت داره تساوي الفي دولار اميركي عام 1950، ومائتي الف دولار عام 1980، لكن الحكومة تعتمد الرقم الأول، وثانية عندما ترفض بغداد تسليم الاموال لليهود المسفّر بالعملة الصعبة، فتحولها الى الدينار العراقي بسعر الصرف الحكومي الرسمي عام 1980، ومبلغ الألفي دولار يعادل ستمائة دينار عراقي فقط، وهو قيمة حمار عراقي من صنف شاوي أو حساوي في ذلك اليوم. اما الآن فهو قيمة ساندويش فلافل. قد يكون من حق يهود العراق الاسرائيليين الامتناع عن مجرد التفكير بالعودة الى العراق في ظل نظام صدام، ولكن هذا لا يمنعهم من ان يعربوا عن رغبتهم مجرد رغبة في العودة اليه مستقبلاً، لو كانوا فعلاً يحنون الى وطنهم. اما ما يذكره ضياء كاشي في مقاله بحقهم من شواهد شعرية، أو مواقف سكياسية، أو "مآكلهم العراقية" كالباشا والكُشري..." فانها لا تكفي للتدليل على تعلقهم بالعراق أبداً.