اشتراك إسرائيل في التحقيق مع المعتقلين العراقيين خبر يصدمنا ولا يفاجئنا. يصدمنا لأنه يكشف عن المدى الذي بلغته استباحة العراق، ولا يفاجئنا لان الحديث متواتر من البداية عن تحقيق إسرائيل لحلمها في الوصول إلى ضفاف الفرات، ومن ثم حضورها في تضاعيف العراق الجديد، وهو حضور لو تعلمون عظيم. (1) الخبر جاء على لسان الجنرال جانيس كاربينسكي، وهي الأمريكية التي كانت مسئولة عن سجن أبو غريب، وتم إيقافها عن العمل بعد ذيوع أمر فضائح التعذيب التي وقعت فيه، وتحدث بها الركبان طيلة الأسابيع الأخيرة. فقد أجرت معها الإذاعة البريطانية حوارا بثته يوم 3/7 الحالي، ذكرت فيه أنها كانت في زيارة لواحد من كبار قادة التحالف بمقر مركز للمخابرات في بغداد، والتقت هناك رجلاً يتحدث العربية، علمت منه انه إسرائيلي ويشارك في استجواب المعتقلين العراقيين. ولا يتصور عاقل أن إسرائيل أوفدت واحداً فقط، ومن الطبيعي أن يكون ذلك الواحد وأمثاله من أهل الخبرة في استجواب العرب الفلسطينيين. وكما هو معلوم فان القضاء الإسرائيلي أجاز تعذيب الفلسطينيين لانتزاع المعلومات منهم. ولا يحتاج المرء إلى بذل جهد كبير لكي يستنتج أن الإسرائيليين نقلوا كل خبرتهم إلى الأمريكيين في هذا الصدد، خصوصاً أن التقارير توالت منذ وقت مبكر عن بعثات أوفدتها إسرائيل إلى الولاياتالمتحدة لتعريفهم بكيفية التعامل مع العرب. وقد رأينا آثار تلك الدروس الخصوصية في تغطية رؤوس المعتقلين بالأكياس، وتقييد أيديهم بالقيود البلاستيكية المدببة، وفي عمليات القنص وهدم البيوت بالجرافات، التي باعتها إسرائيل إلى وزارة الدفاع الأمريكية. ولم يعد سراً أن إسرائيل كانت شريكاً في التحضير للغزو، سواء من خلال ما وفرته أجهزتها من معلومات تطلبتها الخطة، أو ما قامت به فرق الاستطلاع التي عبرت الأردن من مسح للصحراء الغربية للعراق. كما أن إسرائيل وضعت مطاراتها تحت تصرف القوات الغازية، الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول: أنها كانت في الصورة تماماً، قبل الغزو واثناءه وبعده. ولهذا فليس السؤال ما إذا كان هناك أم لا، ولكنه عن الكيفية التي تواجدت بها هناك، والمدى الذي ذهبت إليه في تواجدها. والمقاصد التي تحرتها من ذلك. (2) وقبل أن نتطرق إلى تلك الآفاق ألفت النظر إلى إحدى بديهيات النشاط الاستخباري الإسرائيلي في المنطقة، وهي أن جهاز الموساد وهو يحاول اختراق المجتمعات العربية كان ولا يزال يعمل جاهداً للاتصال بفئتين من أبناء تلك المجتمعات هما: الاقليات وجماعات المعارضة المقيمة بالخارج. لذلك فما من فئة من هؤلاء وهؤلاء إلا وطرقت المخابرات الإسرائيلية بابها. ولا يعني ذلك أن الجميع استجابوا، لان هناك شرفاء يرفضون بحزم أي تعاون من ذلك القبيل. لكن هناك من لم يتردد في أن يمد يده للشيطان حتى يحقق مراده. وهذا ما حدث مع عناصر الحركة الانفصالية في جنوب السودان، ومع بعض الأكراد، وبعض ممثلي المعارضة العراقية. وقد نشرت صحيفة يديعوت احرونوت في 23/5/2003 قصة العلاقة بين السيد احمد جلبي رئيس ما سمي بالمؤتمر الوطني العراقي وبين المسئولين الإسرائيليين، التي بدأت في عام 1990، وكيف تطورت تلك العلاقة بشكل حميم، حتى زار الرجل تل أبيب عدة مرات وأقام فيها تحت اسم مستعار. وعرفنا من وثائق المخابرات الأمريكية التي كشفت أمام لجنة التحقيق في 11 سبتمبر، انه تعهد لواشنطون بأمرين في حال توليه السلطة هما: الاعتراف بإسرائيل وعقد معاهدة سلام معها، وإعادة ضخ النفط العراقي عبر خطوط أنابيب الموصل - حيفا، الذي اغلق في عام 1948، وتحول ضخ النفط العراقي إلى بانياس في سوريا. ومن الثابت أن اغلب المعارضين السياسيين المقيمين في الولاياتالمتحدة وقعوا في ذات الفخ، حيث يشيع في أوساطهم أن مد الجسور مع إسرائيل هو جواز المرور في واشنطون، وسبيل لا مفر منه لكسب ود الطبقة السياسية هناك. ولسنا نبالغ إذا قلنا إن كل تجمعات المعارضة العراقية التي مولتها الولاياتالمتحدة كان موضوع الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها أمراً محسوماً. وما التزم به السيد احمد جلبي في هذا الصدد لم يكن أمراً استثنائياً. ولا محلا للشك في أن ما سرى عليه جرى مع غيره. وإذا كان السيد اياد علاوي رئيس الوزراء الحالي وزعيم حركة الوفاق التي تشكلت في أمريكا، قد جندته المخابرات المركزية للعمل معها في عام 1992، كما ذكرت نيويورك تايمز، فلن استبعد أن يكون ذلك أيضاً موقفه من إسرائيل. من ثم فالاعتراف بها من جانب العراق الجديد مسألة وقت وملاءمة لا اكثر. وفي كل الأحوال فان شواهد الواقع تدل على أن إسرائيل اعتبرت أن أبواب العراق فتحت على مصارعها منذ احتل الأمريكيون بغداد في شهر أبريل من العام الماضي، وتصرفت على هذا الأساس، ولم تقابل ممارساتها بأي اعتراض من جانب قيادات الوضع الجديد. (3) قال لي أحد السياسيين العراقيين الذين رفضوا عضوية مجلس الحكم الانتقالي المعين أمريكياً إن عناصر الموساد وصلوا إلى بغداد مع الطلائع الأولى للقوات الغازية، وبعضهم كانوا من أبناء اليهود العراقيين الذين هاجروا من إسرائيل. وقد التقى هؤلاء مع أقران لهم قدموا من مراكز الموساد المرابطة منذ سنوات في المناطق الكردية، السليمانية واربيل، وغيرهما. وفي وقت قياسي أقاموا لهم مراكز في أهم المدن العراقية تتستر بالأعمال والتوكيلات التجارية والمقاولات. وكانت لديهم مهام محددة تراوحت بين تحري القدرات العسكرية العراقية، وتصفية العلماء الذين كانوا وراء مشروعات التسلح وصولاً إلى محاولة الاستيلاء على تراث اليهود في بابل والحلة والموصل والعمارة، التي يوجد بها قبر النبي عزير. في 15/6 الماضي نشرت الحياة اللندنية تقريراً أيد هذه المعلومات، وأشار إلى أن النشاط الإسرائيلي في العراق اصبح أوضح من أن تحاول أي جهة التستر عليه. وأضاف أن عدد الشركات الإسرائيلية العاملة في العراق بات يتجاوز 150 شركة، تعمل تحت ستار عناوين غربية وعربية. ونقل التقرير عن مصادر عراقية قولها: ان جسراً جوياً من إسرائيل إلى بغداد يواصل نقل الكثير من الشحنات المتعددة الأغراض لحساب جهات منها عسكرية وشركات مدنية تعمل ضمن المجهود العسكري الأمريكي، وقسم منها لحساب شركات تجارية تعمل في القطاعات المدنية العراقية أو لحساب تجار عراقيين. واستنتجت المصادر العراقية من نداء وجهه رجل الأعمال الإسرائيلي بيني نمؤون إلى التجار ورجال الأعمال الأردنيين لفتح الطريق أمام تدفق البضائع والخبرات والشركات الإسرائيلية إلى العراق، أن وسائل النقل الجوية والبحرية لم تعد كافية لتغطية حجم الصادرات الإسرائيلية إلى العراق. نسب التقرير إلى مصادر تجارية عراقية قولها: إن إسرائيل تخطط من اجل المستقبل البعيد في علاقاتها مع العراق وليس لأهداف مرحلية، ذلك انه إذا كان لأمريكا هدف أو اثنان في هذا البلد، فلإسرائيل عشرات الأهداف، ولن تترك الفرصة السانحة تذهب هدراً. في 1/4 نشرت صحيفة معاريف مقالاً في الموضوع تحت عنوان لافت للنظر هو: قواتنا في العراق، رسم فيه كاتبه بوعز غاوون صورة للكيفية التي انفتحت بها أبواب العراق للإسرائيليين، الذين اندفعوا بكل طاقتهم لأخذ نصيبهم من الكعكة الثمينة، الذين ظلوا سنين طوالاً يحلمون بالانقضاض عليها. وبدا واضحاً من المقال أن الإسرائيليين يتدفقون على العراق من الأردن، وانهم يعملون هناك إما بالاشتراك مع تجار أردنيين أو عراقيين، وينفذون من الباطن عقوداً لتوريد احتياجات الجيش الأمريكي. ولم يحقق كاتب المقال أن اغلب رجال الأعمال الذين يتعاملون مع السوق العراقية هم أصلا من ضباط الموساد والجيش السابقين. كما أشار بوضوح إلى أن الإسرائيليين حريصون على إخفاء هوياتهم، كما انهم احرص على طمس أي إشارات على البضائع المرسلة تدل على أن إسرائيل منشأها. وذكر في هذا الصدد أن ثمة مكتبين على الأقل في الزرقاء، الواقعة في قلب المنطقة الحرة مع الأردن تخصصا في نزع كل لوحة إسرائيلية عن السيارات المستعملة التي وصلت إلى إسرائيل، وإرسالها إلى السوق العراقية. وهو يسرد هذه المعلومة روى أن مجموعة من التجار الإسرائيليين أرسلوا قبل ستة اشهر من نشر المقال، 1500 جهاز تكييف إلى الزرقاء لنقلها إلى العراق، ولم ينتبهوا إلى إزالة العبارات المكتوبة بالعبرية عليها. وعلم بذلك التجار الأردنيون المنافسون فأذاعوا خبر الفضيحة، وهددوا التجار العراقيين الذين وصلوا إلى الزرقاء لشراء المكيفات بان كل من يقترب منها سيجري تصويره، لتنشر صورته في بغداد كمتعاون مع إسرائيل. وكانت النتيجة أن العراقيين امتنعوا عن حمل الأجهزة، التي تركت في المخازن الأردنية حتى علاها الغبار، وبيعت لاحقاً بخسارة ربع مليون دولار للشركة المنتجة. تعلم الإسرائيليون الدرس، فأوقفوا صفقة لتسويق مشروبات إسرائيلية معلبة في العراق، وأعادوا تصميم العلب بأسلوب عراقي، وإمعانا في التمويه فانهم كتبوا على العلب آية من القرآن تحدثت عن سقاية العطشى! لان السوق العراقية كبيرة واحتياجاتها لا حدود لها، فان الإسرائيليين يعتبرونها فرصة ذهبية لتسويق أي شيء تصنعه أو تتولى تجميعه أو إعادة تصديره. ومن المعلومات اللافتة للنظر في الصفقات التجارية التي عقدت مع الإسرائيليين أن أحدهم - اسمه يورام كاتس قال التقرير انه يتعامل مع الأسواق العربية منذ عشرين عاماً (؟) - طلب منه مؤخراً إرسال عدة مئات من الحافلات المكيفة المزودة بالمراحيض، لتوفير الراحة لأفواج الشيعة الإيرانيين الذين اصبحوا يتدفقون على النجف بعد سقوط النظام البعثي، ولا اعرف أن كانت الحافلات قد وصلت أم لا، كما أنني لا اعرف أيضاً شعور الإيرانيين حين يستقلون سيارات إسرائيلية وهم في طريقهم إلى النجف! (4) الأحلام الاقتصادية كبيرة للغاية - لكن يظل الدور الاستخباري والمزايا الاستراتيجية تفوق بكثير المكاسب الاقتصادية. فان تكون إسرائيل في قلب بغداد وعلى ضفاف الفرات، ذلك حلم قديم تحقق أخيراً، وان تصفي حسابها مع النظام العراقي الذي تجرأ وقصفها بالصواريخ ذات يوم (أثناء حرب الخليج الثانية)، ثم تشترك في تقليم أظافر العراق وتجريده من قدراته العسكرية، ذلك يبدو بدوره إنجازا كبيرا. ثم أن تصبح في موقع يسمح لها برصد ما يحدث في إيران من ناحية، وفي سوريا من ناحية ثانية، والضغط على البلدين بمختلف الوسائل والحيل، فذلك أيضاً تطور استراتيجي مهم لصالح إسرائيل. لكن يبدو أن إسرائيل قررت أن تكون المنطقة الكردية هي قاعدة ارتكازها في العراق، ليس فقط بسبب متانة العلاقات المستمرة منذ ثلاثة عقود على الأقل بين بعض القيادات الكردية (مسعود برزاني بوجه أخص) وبين المخابرات الإسرائيلية (التي نجحت في كسب قطاع من النخبة الكردية بادعاء أن الطرفين - الإسرائيليين والأكراد - يقفان في خندق واحد، حيث كل منهما يمثل أقلية مضطهدة في المحيط العربي!)، ولكن أيضاً لان إسرائيل ليست مطمئنة إلى استقرار الأوضاع بالعراق في ظل الوجود الأمريكي. وقد سلط الضوء على هذه الحقيقة تقرير نشرته أسبوعية النيويوركر (عدد 21/6) حول العلاقة بين إسرائيل والأكراد، أعده الصحفي ذائع الصيت سيمور هيرش، وفيه قال صراحة: ان التحليل الإسرائيلي للوضع في العراق خلص إلى أن الولاياتالمتحدة خسرت الحرب، وستفشل في مهمتها هناك. حسب تقرير هيرش في النيويوركر فان تكثيف الوجود العسكري الإسرائيلي في كردستان يستهدف بناء قوة عسكرية كردية إقليمية، قادرة على موازنة النفوذ الإيراني المتنامي في العراق، ومواجهة الميليشيات السنية البعثية في البلد، وتنفيذ عمليات تخريبية داخل المناطق الكردية في سورياوإيران، لإقلاق نظامي البلدين وابتزازهما. لا ينسى في هذا الصدد أن الإسرائيليين بعدما اطمأنوا إلى سقوط النظام الخصم في بغداد، فان لديهم مهمة أخرى لن يهدأ لهم بال إلا إذا نجحوا في إنجازها وهي تصفية حسابهم مع خصم آخر في طهران، يستشعرون خطراً من جانبه، يتمثل في أمرين: رفض الاعتراف بإسرائيل (وتشجيع سوريا وحزب الله على معاندتها)، وتنامي القوة العسكرية التي تقترب من الآفاق النووية. هذه الخلفيات دفعت إسرائيل إلى تعزيز محطتها الاستخباراتية في كردستان، وتوسيع مجال عملها بحيث أصبحت تشرف على تدريب وحدات الكوماندوز الكردية في معسكرات تحت إشراف ضباط وخبراء إسرائيليين. وذكر تقرير النيويوركر أن مسئولي المخابرات الإسرائيلية يقومون فضلاً عن ذلك بمهام وعمليات سرية داخل المناطق الكردية على الجانبين الإيراني والسوري. أضاف هيرش أن الوضع الاستراتيجي لإيران اصبح أقوى بعد سقوط نظام صدام حسين، الذي فتح الباب لتنامي النفوذ الإيراني داخل العراق (بين البلدين حدود مشتركة بطول 900 كيلو متر)، وهو ما اعتبره ارييل شارون رئيس وزراء إسرائيل خطراً على مكاسبها ومصالحها الاستراتيجية. ولذلك فانه قرر مضاعفة وتكثيف الوجود الإسرائيلي في كردستان فيما سمي بالخطة بي - (صحيفة هاآرتس نشرت في 2/7 تصريحاً لشارون قال فيه: إن إسرائيل لها علاقات وطيدة مع أكراد العراق، وان تلك العلاقات قائمة منذ فترة مع زعمائهم، ونفى تقديم دعم عسكري لهم، وهو أمر طبيعي نظراً لسرية عمليات الموساد. وإزاء حساسية تركيا التي عبرت عن قلقها اكثر من مرة إزاء دور إسرائيل بالقرب من حدودها في شمال العراق). (5) أثار انتباهي في مقال بوعز غاووي في صحيفة معاريف إشارته إلى أن إسرائيل صدرت إلى العراق في العام الأول بضائع بما قيمته 40 مليون دولار، معتبراً أن ذلك مجرد استفتاح رمزي، وان الرقم لا بد أن يتضاعف بعد ذلك. وأضاف الكاتب نقلاً عن أحد رجال الأعمال الإسرائيليين المخضرمين أن السوق العراقية تشهد منافسة قوية للبضائع الإسرائيلية، التي تتدفق من الصينوتركيا والكويت والسعودية. وهو ما دفعني إلى التساؤل: أين السلع المصرية؟ قبل أن أتلقى الرد وقعت في صحيفة الوفد (يوم 4/7) على الخبر التالي: حذر عدنان الفيصل نائب رئيس غرفة صناعة وتجارة تكريت العراقية، رجال الأعمال المصريين من تصدير بضائع للعراق بنفس مستوى ما تم تصديره ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء، ووصف هذه البضائع بأنها أساءت إلى سمعة الصناعة المصرية.. كما حذر الفيصل من أن العراق في المرحلة المقبلة لن يقبل نوعيات العمالة المصرية التي اعتادت الهجرة إليه في الماضي، والتي وصل عددها إلى مليون و 600 ألف عامل. وحث المبعوث العراقي الشركات المصرية على استخدام العمالة الماهرة القادرة على التعامل مع التقنيات الحديثة، لان المنافسة أصبحت قوية للغاية في العراق. حين انتهيت من قراءة الخبر سحبت سؤالي وابتلعته!