هل من قبيل المصادفة ان صموئيل بيكيت - اعظم كتاب مسرح اللامعقول - ايرلندي؟ قد يقول ساخراً ان الكلمات التي كتبها على لسان استراغون في مسرحية "في انتظار غودو؟": "ليس هناك شيء مؤكد" في الدنيا، تنطبق على الخلاصة التي توصل اليها كل من حاول فهم العلاقات الايرلندية - البريطانية واخفق في ذلك. ولا ريب في ان هذا الكاتب تقلب في قبره مندهشاً عندما اذيع نبأ الاتفاق بين الحكومة البريطانية والاحزاب الايرلندية الشمالية والحكومة الايرلندية. فالشيء المؤكد الوحيد في السياسة تجاه ايرلندا كان شبه استحالة ايجاد قاسم مشترك بين احزاب الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية. فكيف وصلنا الى "بداية اليقين" على طريق الاستفتاء الشعبي في شهر ايار مايو المقبل؟ من الناحية الاجرائية العملية، حُدِّد - تعبيراً عن الجدية والتصميم - موعدٌ قاطعٌ للتوصل الى اتفاق نهائي هو التاسع من نيسان/ ابريل 1998 وجُدولت خطى واتصالات مدروسة من شأنها ان تفضي حلقة بعد الاخرى الى النتيجة المرجوة. ساعد هذا على تركيز الجهود وتحفيز الفرقاء على مواجهة القضايا المعقدة والخروج بتوصيات أو خيارات معينة ازاءها. ويبدو ان التاسع من نيسان اختير بعناية تفاؤلاً بعيد الفصح وهو مناسبة دينية ذات مغزى بالنسبة للكاثوليك والبروتستانت على حد سواء. وقد يرى الكاثوليك في هذا التاريخ ذكرى انتفاضة نيسان 1916 التي أُعدم قادتها ومنهم الكاتب باتريك بيرس فصاروا شهداء على طريق استقلال ايرلندا ووحدتها. ولا ريب ان بعض الكاثوليك سيرى في الاتفاق الذي أُعلن، نصراً مؤجلاً لاولئك الشهداء وغيرهم. اما بالنسبة لغلاة الاتحاديين الموالين لبريطانيا ومثلهم في المفاوضات ديفيد ترمبل بعد ان انسحب ايان بيزلي الاكثر تشدداً فانهم قد فقدوا ورقة رابحة عند فوز حزب العمال في انتخابات ايار 1997 في بريطانيا. كانت حكومة المحافظين بقيادة جون ميجور تعتمد على اصوات نواب ايرلندا الشمالية الذين ابتزوها في اكثر من مناسبة. فازت حكومة توني بلير بأغلبية كبيرة مكنتها من الاستغناء عن اصوات البروتستانت واعطتهم الانطباع بأن التسوية قادمة لا محالة ومن الافضل ان يكون لهم رأي حولها من داخل طاولة المفاوضات لأن عهد "حق النقض" قد انتهى. الا ان حسابات السياسة العملية املت ان يُمنح ترمبل ورقة رابحة يرفعها في وجه منتقديه داخل حزبه. فدستور جمهورية ايرلندا الذي صاغه دولافيرا عام 1937 يتضمن بنوداً تتحدث عن وحدة ايرلندا كلها بما في ذلك ايرلندا الشمالية. ستدخل جمهورية ايرلندا تعديلات ترضى الجانب البروتستانتي. واقع الامر ان تقديم تنازل كبير كهذا صار يسيراً لأن العلاقات الايرلندية البريطانية كلها تغيرت تغييراً جذرياً عام 1973 حينما انضمت جمهورية ايرلندا الى الاتحاد الاوروبي ثم تسارعت اجراءات الوحدة الاوروبية فجعلت حواجز الحدود الاقتصادية والسياسية تتداعى. وبذلك صارت ايرلندا الشمالية التي تحكم حكماً مباشراً من لندن منذ 1972 وايرلندا الجمهورية وبريطانيا جسداً واحداً في اطار الاتحاد الاوروبي. اي ان الوحدة الايرلندية اكتملت ولكن بتصور يختلف عن ذلك الذي ناضل من اجله دعاة الجمهورية والاستقلال. ولا يخفى ان اتفاق التسوية يعتبر نصراً كبيراً لبريطانيا ليس لأن الجمهورية الايرلندية من اكبر الشركاء التجاريين لبريطانيا فحسب، بل لأن لجوء الجيش الجمهوري للعنف وتصديره للارهاب الى بريطانيا اثر على اسلوب الحياة بل على النظام الديموقراطي نفسه وهو من اهم الانجازات التي يزهو بها البريطانيون. فقد افضت رغبة سلطات الامن في مكافحة الارهاب الايرلندي الى اتخاذ اجراءات استثنائية غير مقبولة في النظام الديموقراطي. وأفضل مثل لذلك ما اورده فيليب زيغلر في كتابه عن حياة هارولد ويلسون رئيس الوزراء البريطاني الاسبق. فجر الجيش الجمهوري الايرلندي عدة قنابل موقوتة في غيلفورد وبيرمنغهام في تشرين الثاني نوفمبر 1974، فطالب وزير الداخلية مجلس الوزراء بمنحه سلطات استثنائية تمكنه من طرد ونفي بعض الايرلنديين المقيمين في بريطانيا وابعادهم الى جمهورية ايرلندا. تدخل النائب العام وذكر وزير الداخلية وهارولد ويلسون بأن سياسة النفي والابعاد لم تمارس في التقاليد البريطانية منذ القرون الوسطى! فرد عليه هارولد ويلسون بمرارة: "اننا نواجه موقفاً شبيهاً بما كان يحدث في القرون الوسطى!" وسوف تبتهج المؤسسة الحاكمة في بريطانيا لتخلصها من الملابسات الايرلندية التي جعلت منظمة العفو الدولية تنتقدها اكثر من مرة حول الاعتقال التحفظي وغيره من الاجراءات التي اتخذت لمكافحة ارهاب الكاثوليك والبروتستانت. ولن تكتمل الصورة بدون رصد الدور الاميركي في انجاح مفاوضات التسوية. فالجلسات كان على رأسها اميركي هو جورج ميتشل وتابعها بأهتمام الرئيس الاميركي بيل كلينتون شخصياً. والسر المكشوف هو ثِقلُ الجالية الايرلندية الكاثوليكية في الولاياتالمتحدة واللوبي القوي الذي يتحرك مدافعاً عن القضايا الايرلندية. وقد سبق للرئيس كلنتون ان استقبل زعيم "شن فين" جيري آدمز - الذي يمثل الوجه السياسي العلني للجيش الجمهوري الايرلندي السري - رغم اعتراض حكومة بريطانيا وامتعاضها. فالسياسة كما يقول السياسي الديموقراطي الاميركي تيب اونيل الذي كان من ركائز اللوبي الايرلندي الكاثوليكي تتأثر دائماً بالعوامل المحلية. واساس اهتمام كلنتون بايرلندا الشمالية هو ضغوط اللوبي الايرلندي. فايرلندا ليست "سياسة خارجية" بقدر ما هي موازنات اميركية داخلية انعكست في مرآة خارجية. الاحتمال الغالب ان يزور الرئيس كلينتون ايرلندا الشمالية. كما ان رئيس الوزراء السابق جون ميجور الذي بدأت الجولات الختامية في عهده قبل عامين سيشارك في حملة التعبئة الرامية الى انجاح الاستفتاء يوم 22 ايار المقبل والخروج بنتيجة ايجابية مؤيدة للاتفاق. المغريات التي ترجح المصادقة على الاتفاق في الاستفتاء عديدة: سيكون هناك مجلس لايرلندا الشمالية بالتمثيل النسبي الذي سيضمن للكاثوليك مكاناً تحت الشمس وينتخب في حزيران يونيو المقبل. سيتبع لهذا المجلس مجلس وزاري شمالي - جنوبي مشترك لتنسيق شؤون التعاون بين شقي ايرلندا. وسيكون هناك مجلس بريطاني ايرلندي ويُمثَّلُ فيه برلمانا اسكتلندا وويلز على ان يجتمع مرتين في السنة للمتابعة. وسيكون هناك مؤتمر ايرلندي بريطاني على مستوى رؤساء الوزارتين. معادلة معقدة لمعضلة معقدة. ونتذكر في غمرة التفاؤل ان المتطرفين من الجانبين لن يقبلوا السلام دون مقاومة. هناك ستة "جيوش" سرية مسلحة ومدربة في ايرلندا الشمالية. وسوف تلجأ للعنف حتى اذا ايدت الاغلبية الساحقة اتفاق السلام. الا انها ستنعزل، لا سيما وان السلام سيأتي بفوائد ملموسة في زيادة الاستثمارات والتجارة ومضاعفة الدخل من السياحة. لن تتاح للمتطرفين فرصة تقويض السلام الا اذا بقى الاتفاق حبراً على ورق ولم ينفذ بحذافيره. اذا لم تف الجهات الموقعة بالتزاماتها فان المسلحين سيظهرون ويصعدون نشاطهم تماماً كما حدث في الشرق الأوسط عندما لم يُنفذ ما أُتفق عليه في أوسلو. بيد ان الاتفاق سينفذ بالكامل كما تشير الدلائل. اي ان "غود السلام" الذي انتظره المواطنون في ايرلندا الشمالية عشرات السنين سيصل اخيراً ويضيف بُعداً جديداً واقعياً لمسرحية اللامعقول الايرلندية.